تأتي القمة الروسية- التركية- الإيرانية، المقرر عقدها اليوم الأربعاء في العاصمة التركية أنقرة، لتؤكد أن السياسة لا تعني تطابق المواقف والآراء على الدوام، بل هناك ملفات محل اتفاق وأخرى محل اختلاف.
والجميع في ظل السياسة يسعي إلى تعظيم مصالحه، فتركيا وروسيا لديهما رؤية ومواقف مختلفة فيما يتعلق بالملف السوري، وهو نفس الخلاف بين تركيا وإيران، لكن يجمع الدول الثلاثة خلافهم مع أميركا وبعض الدول الغربية في ملفات أخرى.
ولذلك تعاني كل من روسيا وإيران من فرض عقوبات اقتصادية من قبل أميركا والغرب لتداعيات سياسية، وكذلك تركيا تواجه تحديات ليست بالقليلة على الصعيد الاقتصادي والسياسي، من قبل الدول الغربية تحديدا، ما تسبب في بعض المشكلات الاقتصادية لتركيا، رغم معدلات النمو المرتفعة المحققة خلال 2017 والبالغة 7.4%، والمشروع الطموح الذي تسعى تركيا إلى تحقيقه في 2023.
ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للدول الثلاث 2.5 ترليون دولار، وإن كانت روسيا تحقق ناتجا يعادل ما تحققه كل من تركيا وإيران، فالناتج الروسي يبلغ 1.283 ترليون دولار، وفق أرقام قاعدة البنك الدولي في 2016، وتحقق تركيا 836 مليار دولار، وإيران 418 مليار دولار، حسب نفس المصدر ونفس العام.
إلا أن المصالح المشتركة بين الدول الثلاث ممتدة منذ سنوات، وتسعى كل دولة منها إلى زيادة العلاقات التجارية والاقتصادية مع الطرفين الآخرين، فتركيا مثلًا مستورد صاف للنفط والغاز الطبيعي من روسيا وإيران، وكذلك ثمة حركة سياحية بارزة من إيران وروسيا لتركيا، وهو ما يجعل تركيا تحرص على أداء جيد في حجم صادراتها لكل من إيران وروسيا، ولكن تبقى مشكلة تركيا في أن واردات الطاقة تحول دون تحقيق فائض تجاري مع روسيا وإيران.
ومن البيانات الرسمية التركية، يتضح أن حجم التجارة لتركيا مع كل من روسيا وإيران في تزايد، على مدار العامين الماضيين. فعلى صعيد العلاقة مع روسيا، ارتفع حجم التجارة من 16.7 مليار دولار في 2016 إلى 22.2 مليار دولار في 2017، وكذلك ارتفع حجم التجارة مع إيران في 2017 إلى 10.6 مليارات دولار، مقابل 9.5 مليارات دولار في 2016.
وإن كان الميزان التجاري لتركيا مع إيران في 2016 حقق فائضًا بنحو 300 مليون دولار، إلا أنه في 2017 حقق عجزًا بـ4.2 مليارات دولار، أما في حالة روسيا فنجد أن الميزان التجاري حقق فائضًا لصالح روسيا في العامين بـ13.4 مليار دولار و16.8 مليار دولار، على التوالي. وكما ذكرنا من قبل، تظل نقطة ضعف تركيا في علاقاتها التجارية مع كل من روسيا وإيران في استيراد الطاقة.
أما على صعيد الحركة السياحية التي تمثل رقمًا مهمًا في العلاقات الاقتصادية لتركيا مع كل من روسيا وإيران، فأرقام معهد الإحصاء التركي تبين أن ثمة تحسنا واضحا للحركة السياحية من البلدين لتركيا خلال 2017، ففي حالة إيران ارتفع عدد السائحين إلى 2.3 مليون سائح 2017، بعد أن كان بحدود 1.5 مليون سائح في 2016، وكذلك روسيا وصل عدد سائحيها لتركيا إلى 3.5 ملايين، بعد أن كان بحدود 683 ألفا.
ولا يخفى على المتابع لشؤون العلاقات التركية الروسية أن انخفاض أعداد السائحين الروس لتركيا كان نتيجة لاهتزاز العلاقة بين البلدين، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية على الحدود التركيا مع سورية، والتي أدت إلى ما يمكن وصفه بالقطيعة الاقتصادية بين البلدين، وإن كانتا نجحتا مؤخرًا في عودة العلاقات إلى سابق عهدها.
وإن كان ثمة احتمال لتراجع الحركة السياحية الروسية لتركيا، خلال الفترة القادمة، بسبب ما يعلن من قرب عودة السياحة الروسية لمصر، وقد تكون الحركة السياحية الروسية لمصر خصمًا من أعداد السائحين لتركيا، وهو ما يفرض منافسة على السياحة التركية، لتحافظ على هذا الزخم السياحي، ولا تفقد أعدادًا من السائحين الروس، خاصة أن تركيا أحد أهم 10 مقاصد سياحية على مستوى العالم.
من الصعوبة بمكان ألا تقرأ التحركات السياسية على الصعيد الإقليمي بعيدًا عن الأحداث الملتهبة التي تشهدها المنطقة، سواء في بؤر الصراع المسلح في كل من سورية واليمن وليبيا والعراق، أو في مناطق التوتر السياسي كما هو الحال في الأزمة الخليجية، أو في توتر العلاقات المصرية التركية، أو الوصاية التي تحرص أميركا على فرضها على بلدان المنطقة.
ولما كان الاقتصاد صنو السياسة، فلا تغيب العلاقات الاقتصادية كثمرة أو دافع للأداء السياسي، خاصة في ظل الدول الثلاث التي ستضمها قمة أنقرة، ويمكننا رصد 3 رسائل اقتصادية تسعى القمة إلى إيصالها:
- تعكس الأرقام التي ذكرناها أن الدول الثلاث وجدت في توطيد العلاقات التجارية والاقتصادية بينها مخرجًا لما يمارس عليها من ضغوط وعقوبات من قبل أميركا والغرب، كما أن هناك ثمة رسائل موجهة لبعض دول المنطقة التي تمارس أعمالا من شأنها أن تضعف الموقف السياسي التركي في الداخل والخارج، وهي أن العلاقات التجارية والاقتصادية لتركيا مع إيران وروسيا يمكنها أن تعوض النقص الحاصل لتوتر علاقاتها مع بعض البلدان الإقليمية، والتي كان من المفترض ألا تكون خصمًا من الأداء التركي.
- في ظل توجهات أميركا لتبني ما يعرف بالحماية التجارية، وما يمكن أن يجلبه ذلك من دلالات سلبية على الأداء التجاري لدول القمة، خاصة مع تركيا، وإن كان بشكل غير مباشر، إلا أن رد الفعل الدولي تجاه التوجهات الأميركية، من الممكن أن يؤدي إلى اصطفاف دول القمة للمعسكر المناوئ للتوجهات الأميركية، والذي يضم الصين وبعض دول أوروبا.
- ثمة تعاون عسكري ينتظر أن تسفر عنه قمة أنقرة، على صعيد تجارة السلاح، خاصة أن لتركيا توجهات توسعية في هذا المجال، حيث تعمل على زيادة صادراتها من الأسلحة، كما تسعى في نفس الوقت إلى أن تطور تكنولوجيا الإنتاج العسكري، وهو ما ينتج عنه تعاون مع روسيا في هذا المجال، لتكون هناك حالة من دمج الجهود التكنولوجية بين البلدين، في حين أن إيران لديها كذلك ما تقدمه في هذا المضمار، خاصة في مجال تطوير الصواريخ.
وكما أظهرت السنوات القليلة الماضية، نجد أن نجاح كل من الدول الثلاث في توظيف علاقاتها السياسية لتحقيق مكاسب اقتصادية بينية، وذلك يعكس تبني استراتيجية مستقبلية، مفادها أن حالة التركز في العلاقات لتركيا تجاه الغرب أو أميركا لم تعد تصلح لتقوية موقفها، وإنما عليها أن تنوع من تلك العلاقات، حتى لا تكون تحت ضغط طرف من الأطراف، خاصة في ظل سعى البعض للضغط عليها وتمرير مشروعات تهدد أمنها القومي، من خلال مشروع الدولة التركية على الحدود السورية أو العراقية.