المتابع للعلاقات السياسية والاقتصادية بين تركيا وأميركا خلال الفترة الماضية، يلاحظ أنها تمر بتوتر شديد بخاصة في ما يتعلق بالقضايا البينية، وإن كان هناك ثمة تفاهمات في ما يتعلق بملفات إقليمية كما هو الحال في سورية مثلًا.
أحدث ملامح التوتر، فرض أميركا أمس عقوبات على وزيرين تركيين على خلفية محاكمة قس أميركي متهم بدعم المحاولة الانقلابية في العام 2016.
وفي إطار العلاقات التجارية بين أميركا وتركيا، تظهر أرقام معهد الإحصاء التركي أن قيمة التبادل التجاري بين البلدين بلغت 20.5 مليار دولار في 2017، وكان الميزان التجاري في صالح أميركا بنحو 3.3 مليارات دولار، فقد بلغت الواردات التركية من أميركا 11.9 مليار دولار، والصادرات التركية 8.6 مليارات دولار.
وإجمالًا، تمثل التجارة بين البلدين نسبة 5.2% من إجمالي التجارة الخارجية لتركيا في 2017، والبالغة 390 مليار دولار. ومن السلع التركية التي ستتضرر من رسوم ترامب صادرات الصلب والألمنيوم.
وكانت تركيا قد أخطرت منظمة التجارة العالمية بأنها ستفرض رسومًا على 22 سلعة أميركية يتم استيرادها، وذلك في إطار المعاملة بالمثل.
وعلى ما يبدو، فإن ثمة تصعيدا سلبيا من قبل أميركا، ولم يكن ملف القس هو الوحيد الذي جعل أميركا تفرض عقوبات على تركيا، فمن قبله كانت صفقة منظومة الصواريخ الروسية "اس 400"، التي ستبرمها أنقرة مع روسيا، والتي أعلنت أميركا بسببها أنها تدرس فرض عقوبات على تركيا أيضا.
وهناك ملف بنك "خلق" التركي، والذي اتهمته أميركا بخرق قواعد العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ويحاكم الآن أحد مسؤولي البنك البارزين في أميركا، وتصر تركيا على سلامة موقفها.
كل هذه الشواهد تدل على أن أميركا لم يعد في جعبتها سوى سيف العقوبات، وأنها لا تبالي بتصفير مصالحها مع تركيا.
ونظرًا للتصعيد بين البلدين حول قضية القس وغيرها، شهدت الليرة انخفاضًا ملحوظًا أمام الدولار، بسبب فرض عقوبات على تركيا، فقد تجاوز سعر الدولار حاجز الـ5 ليرات لأول مرة.
لكن على ما يبدو، فإن الأمر يتجاوز هذه الأحداث الظاهرة، فثمة أسباب للتوتر بين البلدين لم يعلن عنها بعد، ففي إبريل/نيسان 2018، أعلن البنك المركزي التركي سحب كامل احتياطياته من الذهب بنهاية 2017 من النظام الفيدرالي الأميركي، وكذلك فعلت البنوك التجارية التركية، وقدر الرصيد بنحو 28.7 طنًا من الذهب، وفُسرت الخطوة على أنها تأتي في إطار إخراج الليرة من صراع الدولار والذهب في السوق العالمية.
أميركا في عهد ترامب مسكونة بأنها الطرف الأقوى في كل شيء ومع أي دولة، وتلوح بسيف العقوبات مع الجميع، وتناست أن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح، وبخاصة مع دولة مثل تركيا، تمثل رقمًا مهمًا في المعادلة الإقليمية، وكذلك في مجموعة العشرين.
وهذه السياسة التي تتبعها أميركا تجاه تركيا وغيرها من الدول مثل إيران، تجعل أميركا تتبنى مبدأ "زيرو مصالح"، وهو مبدأ لا يتماشى وطبيعة المستجدات بشأن خريطة القوى الاقتصادية الآن، فقد تُحدث السياسة الأميركية بعض الأضرار للاقتصاد والدولة التركيَين، ولكنها لا تستطيع أن تلزم تركيا بعدم البحث عن شركاء آخرين.
فكما ذكرنا، إن حجم التجارة بين البلدين لا يمثل سوى 5.2% من إجمالي التجارة التركية في 2017، ويمكن لتركيا أن تتغلب على مشكلاتها الاقتصادية الناتجة من التهديد الأميركي بفرض عقوبات إذا ما فُعلت، لكن أميركا ستخسر تركيا كدولة إقليمية لها أدوار متعددة في المنطقة، وبخاصة في ظل التهاب العديد من الملفات، التي تتطلب تعاونًا أميركيًا - تركيًا.
وفي الوقت الذي تهدد أميركا تركيا بفرض عقوبات اقتصادية، نجد أن وزير المالية التركي برات البيرق يعلن أن بلاده حصلت على حزمة قروض تقدر بنحو 3.5 مليارات دولار، وأن القروض ستوجه لمجالات النقل والطاقة.
والإعلان عن هذا القرض في هذا التوقيت له دلالاته السياسية، سواء بالنسبة لأميركا أو تركيا، فالرسالة لأميركا، بأن هناك جسورا تمد بين تركيا والصين، ومن الممكن أن يحدث تحول تاريخي في العلاقات التركية - الأميركية، لصالح الصين، التي تمثل المنافس الأكبر على الساحة العالمية لأميركا.
أما الرسالة الثانية، فهي أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التهديدات الأميركية، لكنها تحرص على وجود مساحات للعلاقات مع جهات أخرى، وأن المصالح المتبادلة تخلق علاقات جديدة، ومن شأنها أن تغير من طبيعة خرائط عدة على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
ومن الضروري أن نشير إلى أن تركيا تساعدها ظروف كثيرة للوقوف أمام التهديد الأميركي بفرض عقوبات، منها حالة النزاع والخصام التي يتبناها ترامب مع العديد من الدول في ضوء الحرب التجارية، وبخاصة مع الصين والاتحاد الأوروبي، وهي حرب ترفضها مؤسسات دولية، مثل الصندوق والبنك الدوليين، وكذلك مجموعة العشرين، وأخيرًا تجمع دول البريكس الذي أعلن اعتراضه في قمته بجنوب أفريقيا على سياسات الحماية التجارية التي تتبعها أميركا.
على صعيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة لأميركا في تركيا، فهي تأتي في مرتبة متأخرة، فالإحصاءات التركية لعام 2016، تشير إلى أن تدفقات الاستثمارات الأميركية لتركيا بلغت 450 مليون دولار، من 12.5 مليار دولار من مختلف دول العالم، وبذلك تبلغ الاستثمارات الأميركية نسبة 3.6%.
بل قد تكون الاستثمارات الأميركية المتراكمة في تركيا إحدى أوراق الضغط على أميركا وليس تركيا، بسبب أن هذه الاستثمارات موجودة في مشروعات، وليست أموالًا ساخنة من السهولة بمكان إخراجها، أو تفعيلها في صناعة أزمة بتركيا.
بلا شك، فإن أي نزاع لا يفضي إلى انتصار طرف على طرف بشكل كامل، أو ما يعرف بنتائج المعادلة الصفرية، وهو ما ينطبق على حالة النزاع الأميركي - التركي البادية للعيان منذ ما يزيد عن عامين، وبخاصة بعد موقف تركيا من الثورات المضادة بدول الربيع العربي، وباقي ملفات المنطقة.
وشهدت العلاقات الأميركية - التركية المزيد من التوتر مع قدوم ترامب، الذي صدر شعار "أميركا أولًا"، وقد يكون توتر العلاقات الثنائية له خلفيات أخرى، لصالح دول عربية على خلاف مع التوجهات التركية، بل تسعى لزوال الحكم الحالي بتركيا.
لن تستفيد واشنطن من استمرار توتر علاقاتها مع أنقرة، واستخدام سيف العقوبات، والعكس بالنسبة لتركيا، فلا تزال أميركا تمسك بتلابيب الاقتصاد العالمي، وبخاصة في ما يتعلق بالسياستين النقدية والمالية، وهو ما ظهر أثره بشكل كبير على انخفاض قيمة الليرة، في وقت تأمل فيه تركيا تحسن عملاتها بعد الإيجابيات التي أحرزتها على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
وكعادة السياسة، قد تأتي الحلول المفاجئة لتغير مسار النزاع، وأحسب أن هذا هو المتوقع في إدارة ملف الخلاف الأميركي -التركي، وبخاصة أن المساحات المشتركة والمصالحة القائمة تقتضي معالجة أهدأ.