الإعلان عن خروج أكثر من لقاح لفيروس كورونا قاد العالم لحالة من التفاؤل بشأن الأداء الاقتصادي والعودة للحياة الطبيعية، إلا أن الأخبار التي حملتها إلينا وسائل الإعلام مؤخرا حول الموجة الثانية وتحور الفيروس وظهور سلالات جديدة منه، أدت إلى إغلاق تام في عدد من دول أوروبا، بل حتى في بعض البلدان العربية.
ولكن الجهود العلمية المبذولة في مواجهة الفيروس قادت العالم لكسر حالة التشاؤم حول الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهذا في حد ذاته عامل إيجابي، إلا أن المعادلة في أصلها لم تتغير بالنسبة للوضع الاقتصادي برمته، حيث لا تزال الجهود العلمية الطبية هي المتغير المستقل في المعادلة، والاقتصاد بجوانبه المختلفة في وضع المتغير التابع.
وتدلُّ على ذلك توقعات صندوق النقد الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي في أكتوبر/تشرين الأول 2020، حيث خفض من توقعات التشاؤم حول تقديرات الناتج المحلي العالمي في نهاية عام 2020، ليكون بحدود سالب 4.4%، بعد أن كانت تلك التقديرات فيما مضى بحدود سالب 6%.
إلا أن حالة التحسن الذي تتبناه تقديرات صندوق النقد الدولي، بشأن أداء الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، لتكون بحدود 5.2%، ستكون حالة استثنائية، لأن توقعات الصندوق للناتج المحلي العالمي في الأجل المتوسط -أي من 3 إلى 5 سنوات- ستكون بحدود نسبة 3.5%، بسبب التراكمات السلبية الناتجة عن الإغلاق الكبير في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان 2020، وما ترتب عليها من ارتفاع معدلات الديون العامة، وحالات الإفلاس للشركات، وزيادة معدلات الفقر.
وقد حملت حالة التفاؤل التي صدّرتها أخبار إنتاج لقاحات متعددة في أكثر من دولة، توقعات بتحسن بعض القطاعات التي ستكون في إطار خدمة تقديم هذه اللقاحات للدول المستفيدة منه، كما أنها ستقود إلى تغيرات منتظرة في طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم سيكون هناك مستفيدون ومتضررون من أداء الاقتصاد العالمي في عام 2021، في ظل تحدي جائحة كورونا الذي لا يزال جاثما على صدر العالم.
منذ اللحظات الأولى لجائحة كورونا، اتجهت أرباح الشركات العاملة في قطاع الدواء والرعاية الصحية إلى الزيادة بمعدلات كبيرة، بسبب زيادة معدلات استهلاك المعقمات والكمامات، وكذلك زيادة الطلب على الأدوية الخاصة بأمراض الصدر، أو المتعلقة بتقوية المناعة، أو طلب العلاج بالمستشفيات.
ومع دخول الموجة الثانية من فيروس كورونا في أكتوبر/تشرين الأول 2020، عادت الإجراءات الاحترازية لدى شرائح كبيرة من المجتمعات، مما أدى إلى زيادة استهلاك المعقمات واستخدام الأدوات الوقائية، مثل الكمامات والمطهرات وغيرها، وهو ما يعني استمرار خطوط الإنتاج، وزيادة الكميات المنتجة، وبالتالي زيادة المبيعات ونسب الأرباح للشركات العاملة في إنتاج هذه المستلزمات على مستوى العالم.
إلا أن الشركات المنتجة للقاحات المضادة لفيروس كورونا، ستكون الفائز الأكبر في عام 2021 وما بعده، لأنها في وضح احتكاري، وبخاصة أن إنتاجها لعام 2021 بالكامل تم حجزه مقدما، وتحصلت على دفعات من ثمن اللقاح، مما يجعلها في وضع مالي أفضل.
الغذاء من السلع الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وقد أثّرت جائحة كورونا بشكل ملحوظ على مداخيل شرائح ليست قليلة من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة على مستوى العالم، وكان ذلك سببا في تقليل استهلاكها من الطلب على الغذاء.
ولكن إحصاءات الطلب على الغذاء تذهب إلى أنه بعد زوال تهديد الحظر وإزالة عوائق خطوط التموين والإمداد على مستوى التجارة العالمية، فقد حققت الصادرات الغذائية على مستوى العالم أرباحا بنسبة 4.6% خلال النصف الأول من عام 2020.
وسوف يزيد الطلب على الغذاء في عام 2021، ويظل قطاع إنتاج الغذاء في حالة نشطة لتلبية الطلب. وقد نتج عن جائحة كورونا دخول خدمة تجهيز الطعام لطالبيه من خلال الأسر والعائلات في المنازل، لتعويض حالة البطالة التي ألمّت بأعضاء هذه الأسر والعائلات.
كان الطيران من أكبر وأسرع القطاعات الاقتصادية التي تكبدت خسائر كبيرة بسبب جائحة كورونا. وذهبت التقديرات في الربع الثاني من عام 2020 لأن تكون خسائر قطاع الطيران بحدود 300 مليار دولار، وتراكمت ديون قدرت بنحو 550 مليار دولار على شركات الطيران، وتم تسريح نسبة كبيرة من العاملين فيه، وأفلست بعض شركات الطيران والشركات المرتبطة بتقديم خدماتها لهذا القطاع.
ولكن إنتاج اللقاحات من أكثر من بلد، وحاجة جميع دول العالم إليها، سوف تساعد على تنشيط حركة الطيران في رحلات للتوزيع، وما يصاحب ذلك من أنشطة اقتصادية لخدمة قطاع الطيران من شركات التأمين والشحن والتبريد، والفنادق لاستقدام العاملين في قطاع الطيران.
وكان الاتحاد الدولي للنقل الجوي قد قدّر نسبة التراجع في الطلب على السفر بـ88% في سبتمبر/أيلول 2020، مقارنة بأداء نفس الشهر من عام 2019، إلا أن البعض يذهب إلى أن وجود اللقاح سوف يغيّر من حركة الطلب على السفر، وخاصة بعد مضي الربع الأول من عام 2021، حيث ستكون عمليات التعاطي مع اللقاح اتسعت بشكل كبير، وأصبحت واقعا معيشا، يطمئن الناس لسلامة اللقاح وعدم وجود أعراض جانبية له.
إلا أن الرحلات التجارية ستكون هي الغالبة خلال عام 2021 على الأقل، ولذلك ذهبت بعض التقديرات إلى أن إيرادات الشحن الجوي في 2021 ستصل إلى مستويات تاريخية -بسبب نقل اللقاحات والأنشطة المرتبطة بها- تبلغ 140 مليار دولار.
تذهب التوقعات بوجود تحسن مشروط لقطاع السياحة في عام 2021، إذا ما تم تحقيق الانفتاح الآمن، بعد وصول اللقاحات لقطاعات كبيرة على مستوى العالم، لينشط السفر لأغراض مختلفة. والمعلوم أن السياحة كانت من أكثر القطاعات تضررا من جائحة كورونا.
ووفق تقديرات منظمة السياحة العالمية، فإن خسائر قطاع السياحة قد تتجاوز التريليون دولار بشكل مباشر، كما أن الخسائر الاقتصادية للناتج المحلي العالمي بسبب تراجع قطاع السياحة ستكون بحدود تريليوني دولار. وكانت منطقة آسيا أكثر المناطق على مستوى العالم من حيث تراجع حركة السياحة بنحو 82%، ثم منطقة الشرق الأوسط بنسبة 73%، ثم أفريقيا بنسبة 69%، ثم أوروبا والأميركتين بنسبة 68%.
وهناك نشاط مهم داخل القطاع السياحي والخدمي، وهو قطاع المطاعم والمقاهي، وخاصة في الدول التي تتعامل مع جائحة كورونا بجدية، حيث تضررت المطاعم والمقاهي بشكل كبير، فلم تعد أيام إجازة نهاية الأسبوع، قمة نشاط هذه المنشآت، كما كانت من قبل، لأن معظم الدول تفرض في تلك الأيام حظرا كاملا.
تم التوصل إلى لقاحات لمواجهة كورونا، وهو جهد إنساني محمود، وتسابقت الدول الغنية والقادرة على الحصول على الكميات اللازمة لتأمين مواطنيها، ولكن ثمة شرائح من البشر ليست قليلة لا يمكنها الحصول على هذه اللقاحات، لأن ثمنها يفوق قدراتهم المالية، فضلا عن أن دولهم الفقيرة لا تملك القدرات المالية لشرائها وإتاحتها للجميع.
وكانت شعوب الدول الفقيرة بمثابة المجني عليها في هذه الجائحة، فالفيروس بدأ في الصين، ثم انتشر على مستوى العالم، وكانت نتائجه السلبية على الدول الفقيرة أن زادت معدلات الفقر والجوع والبطالة فيها، ولم تجد هذه الشعوب ما يعوضها عن تلك الأضرار.
وإن كان من دور للمنظمات الدولية خلال عام 2021 في ظل هذه الجائحة التي تضرب جميع دول العالم، فليكن في توفير اللقاحات بشكل عاجل وآمن للشعوب الفقيرة، وألا تستغل حاجتهم من قبل المحتكرين والفسدة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي