شهد نوفمبر/تشرين الثاني 2021 مواجهة صريحة بين تحالف "أوبك بلس" والرئيس الأميركي بايدن، وراهن الجميع على حرب نفطية بينهما غير محسوبة النتائج، فلأول مرة تصمد جبهة تمثل عددًا كبيرًا من المنتجين وتفرض سياستها على السوق، وهذه الجبهة هي "أوبك بلس" التي تقودها السعودية وروسيا، بينما نجح بايدن في شحن وتضامن عدد من كبار مستهلكي النفط، للضغط على التحالف النفطي عبر آلية استخدام جزء من المخزونات الاستراتيجية لاحتياطيات النفط.
لكن مع بداية ديسمبر/ كانون الأول 2021، أدى السجال القائم بين الطرفين تحقيق إلى كل طرف جزءاً من أهدافه، فالرئيس الأميركي حصل على خفض أسعار النفط في السوق الدولية إلى ما دون سقف 70 دولاراً للبرميل، بعدما كان عند 85 دولاراً للبرميل في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وهو ما يعني أنّ ثمة تخفيض ملحوظ تحقق على الأرض من شأنه أن يبرد معدلات التضخم المرتفع في أميركا والدول الكبرى المستهلكة للنفط.
وإن كان البعض يرى أن التخفيض حصل نتيجة حالة التخوف والضبابية حول أداء الاقتصاد العالمي، بعد تزايد أعداد الإصابات بالمتحور الجديد لكورونا "أوميكرون"، وإقدام بعض الدول على اتخاذ إجراءات احترازية وصلت إلى منع استقبال الرحلات الجوية، أو على الأقل عدم استقبال الأجانب.
على الجهة الأخرى، حافظت جبهة "أوبك بلس" على سياستها التي أعلنتها من عدم زيادة الكميات المعروضة على حجم الإنتاج الذي يمثل العرض اليومي، وهو ما عكس موقفاً قوياً للتحالف، وما يمكن من خلاله استنتاج أن ثمة تغيراً في معادلة النفط في السوق الدولية.
فلم تعد تلك المعادلة في إطارها التقليدي الذي يعكس حالة الوهن للمنتجين، وتحكّم وسيطرة المستهلكين، إلى معادلة جديدة لها طرفان يسعى كل منهما لتحقيق مصالحه، وبالتالي يمكن أن تكون المفاوضات محققة شيئاً من العدالة المهدرة بحق المنتجين في سوق النفط على مدار سنوات.
وسط تصريحات الاقتصاديين والساسة في مختلف أنحاء العالم عن التداعيات السلبية المنتظرة على الاقتصاد الدولي بسبب تطورات "أوميكرون"، تصدرت تصريحات تمس تحركات عسكرية من شأنها أن تربك سوق النفط ، لأنها تمس اثنين من كبار منتجي النفط، وهما روسيا وإيران.
ففي دولة الاحتلال، أعلن بني غانتس، وزير الدفاع، عن صفقة لشراء أسلحة بنحو 1.5 مليار دولار من أميركا، وهي أسلحة دقيقة، وأضاف أن تحركهم في هذا الشأن يأتي من خلال اهتمامهم بتوجيه ضربة لا مفر منها لإيران لوقف تقدم برنامجها النووي. كما أشار إلى إيمانه بأن أميركا سوف تساندهم في ذلك.
ويأتي التصريح في ظل الأخبار المتفائلة حول مفاوضات تخوضها إيران مع أوروبا وأميركا حول البرنامج النووي، حيث أعلن مسئول إيراني أنهم لن يقبلوا بأقل من رفع كامل العقوبات الاقتصادية، والعودة بحجم إنتاجهم النفطي إلى سقف 4.5 ملايين برميل يومياً.
وفي أواخر 2020، نجحت إسرائيل في تجنيد أحد عملائها في إيران لاغتيال محسن فخري زادة، واحد من كبار العلماء القائمين على تطوير البرنامج النووي الإيراني، وكذلك نجحت في تفجير أحد المواقع الخاصة بعمل بعض وحدات البرنامج النووي، وثمة حديث عن حرب سيبرانية تقودها إسرائيل لاختراق نظام المعلومات الخاص بالبرنامج النووي الإيراني.
والتحرك العسكري الثاني، المنتظر أن يؤثر على سوق النفط بشكل كبير إذا ما تحقق، هو أن تقع حرب بين أوكرانيا وروسيا مجددًا، وثمة تصريحات قوية من قبل قادة روس حول تحرك حلف الناتو بنشر أسلحة نووية حول روسيا، وكذلك وجود حشود عسكرية بأعداد كبيرة من قبل أوكرانيا على حدودها مع روسيا.
ومن شأن هذه الحرب، إذا ما وقعت، أن تُوظف فيها روسيا ورقة الطاقة بشكل كبير، وبخاصة أن الغاز الطبيعي، الذي تمد به روسيا الدول الأوروبية، قد يتيح لها ممارسة ضغوط كبيرة، كما أن تراجع معدلات الإنتاج الروسي في سوق النفط يمكن أن يحدث خللاً كبيراً بالسوق يؤدي إلى رفع الأسعار، إذ بلغ الإنتاج الروسي من النفط ومكثفات الغاز في أكتوبر 2021 نحو 10.7 ملايين برميل يومياً. ويقدر الإنتاج الروسي اليومي بنحو 11% من حجم الإنتاج العالمي.
لا شك أنّ السياسة لها حساباتها، ولعل التصريحات حول التحركات، التي جرت الإشارة إليها في ما يتعلق بضربة إسرائيلية لإيران أو نشوب حرب غربية أميركية مع روسيا في أوكرانيا، تحمل توظيفاً سياسياً، يبغي الطرفان منها زيادة مكاسبه في مفاوضات حول ملفات معينة، لكن ماذا لو دخلت هذه التهديدات حيز التنفيذ؟
وقوع الحدثين، أو أحدهما، من شأنه أن يشعل أسعار النفط في السوق الدولية، خاصة أن موسم الشتاء في بدايته، والطلب على النفط لن يقل عن مستواه الحالي، إلا إذا اتجهت التداعيات السلبية لمتحور "أوميكرون" للتصعيد، وأدت إلى تعطيل حركة الطيران، وإلى التأثير السلبي على أنشطة الإنتاج والتجارة الدولية.
هل ستضحّي إيران وترضى ببعض خسائرها من أجل رفع العقوبات الاقتصادية وتمرير الضربة الإسرائيلية إن وقعت؟
ومما يساعد على تأجيج الطلب على النفط في حالة حدوث أحد الأمرين، أو كليهما معاً، أن يزيد الطلب بشكل كبير على النفط، لأنّ أيّاً من الحدثين لن يكون عارضاً، أو قصير الأجل، فضربة إسرائيل لإيران، ستقابلها طهران برد، لن يكون قصير الأجل، ولن تفلح معه جهود التهدئة في الأجل القصير، وإن كان رد فعل إيران على اغتيال أحد علمائها الكبار في المجال النووي، أو تفجير إحدى المنشآت النووية، غير ملموس الأثر، أو منعدماً إن صح التعبير.
لكن، هل ستضحّي إيران وترضى ببعض خسائرها من أجل رفع العقوبات الاقتصادية وتمرير الضربة الإسرائيلية إن وقعت؟ لا أعتقد ذلك، فالعواقب ستكون وخيمة عسكرياً، وآثارها ستلهب أسعار النفط. فغير مرة أعلنت إيران عن امتلاكها قواعد صاروخية بإمكانها تدمير إسرائيل.
أما الحدث الثاني، وهو الصدام الروسي مع الناتو في أوكرانيا، فلن يكون أقل من بداية حرب عالمية، وسيكون أثره على سوق النفط أضعاف الآثار المترتبة على توجيه الضربة الإسرائيلية المحتملة لإيران، بسبب ثقل روسيا في السوق الدولية للنفط والغاز.
ثمة علاقات قوية لأميركا بباقي الدول النفطية الكبيرة المنتجة للنفط، مثل السعودية والإمارات ونيجيريا، وباقي دول "أوبك"، ويمكنها أن تمارس ضغوطًا على تلك الدول لزيادة معدلات إنتاجها، وسد الفجوات المحتملة لتوقف النفط من روسيا وإيران في حال وقوع أحد الصدامين العسكريين.
لكن، علينا أن نستوعب أنّ رد فعل الأسواق في بداية الأحداث سيكون سريعاً، ومن الصعب أن تستطيع أميركا والغرب ترتيب الأمور مع الدول الأخرى المنتجة للنفط، بخلاف إيران وروسيا، إلّا إذا كان الأمر مرتباً كاستراتيجية مسبقة. وهو أمر مستبعد، فلا بدّ أن يكون لسوق النفط رد سريع بارتفاع أسعار الخام، التي يمكن أن تقفز إلى ما كانت عليه في أكتوبر 2021 عند سعر 85 دولاراً للبرميل، بل وقد تصعد عن هذا المعدل، إذا ما استمرت الأحداث فترات طويلة.
ومن الصعب أن تسلّم الدول الكبرى المستهلكة للنفط بأن تتوقف الحياة، حتى في ظل تداعيات سلبية لمتحور "أوميكرون"، وهي تسعى لاستمرار استراتيجية النفط الرخيص عند معدلات تتراوح ما بين 60 و65 دولاراً للبرميل.