ارتبط نموذج التنمية في ماليزيا بشخصية مهاتير محمد، حيث كان بمثابة رسولها الذي أرّخ لها، ورصد الدروس المستفادة منها، اتسم بصلابة مواقفه في مواجهة التحديات، وكان موقفه الأبرز في أزمة 1997، حيث واجه المضاربين بشكل حاسم، ولم يلتفت إلى معالجات شكلية أوصته بها المؤسسات الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليان). وأنجز ما وعد، وأخرج ماليزيا أقوى مما كانت عليه قبل الأزمة خلال عامين.
وقبل 15 عامًا، ترك مهاتير محمد السلطة بمحض إرادته، معلنًا آنذاك أن قراره جاء بناء على نصيحة أمّه له في صغره "اترك الطعام وأنت تشتهيه"، لكن صناديق الانتخابات في 2018 حملته مرة ثانية ليتولى زمام الأمور، بعد أن شهدت تجربة بلاده تراجعات، وشوّه وجهها الفساد.
عودة مهاتير للحكم، قد تختلف عن تجربته الأولى التي استمرت لأكثر من عقدين من الزمن، فثمة أوضاع وترتيبات سياسية عالمية وإقليمية مختلفة الآن عن ذي قبل، لكن على كل حال ستكون الملفات الاقتصادية على رأس أجندة حكومة مهاتير محمد.
تفجرت قضية الفساد بالصندوق السيادي لماليزيا، لتفتح العديد من قضايا الفساد الداخلية، ومن أبرزها تحويل 681 مليون دولار على الحساب الشخصي لرئيس الوزراء الأسبق، نجيب عبد الرزاق، من قبل الحكومة السعودية، وهو ما فسره عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، بأن هذا المبلغ حوّل على سبيل الهبة، وهو سلوك متبع من قبل السعودية مع العديد من الدول والشخصيات العامة.
لكن ممارسات الفساد، خلال السنوات الماضية، تخللت العديد من الإدارات الحكومية في ماليزيا، وهو ما عكسه ترتيب البلاد على المؤشر العالمي لمدركات الفساد.
ففي 2003 إبان تولي مهاتير للسلطة، كانت ماليزيا تقل فيها معدلات الفساد بشكل كبير، وكانت تحتل المرتبة 37 بين دول العالم، بينما مؤشر 2017 يضع البلاد في المرتبة 67 من 180 دولة، وهو ما يعني أن الفساد بعد مهاتير توسّع بشكل كبير، ويدلل على ذلك تراجع ترتيب ماليزيا على مؤشر الفساد بنحو 25 مرتبة.
ستكون مواجهة الفساد من القضايا التي ستستغرق جهود حكومة مهاتير الجديدة، خاصة أن الفساد تشعّب في الجهاز الإداري للدولة، ومن أبرز الأجهزة، جهاز الشرطة.
وتكتسب مواجهة الفساد أهميتها من كون ماليزيا تعتمد على الاستثمار والتصدير والسياحة، وهي ملفات شديدة الارتباط بالعالم الخارجي، ومن شأن شيوع الفساد أن يؤثر سلبًا على هذه الملفات.
قفزة كبيرة شهدتها ديون ماليزيا خلال الفترة 2003 - 2016، فحينما ترك مهاتير السلطة في 2003، كانت الديون الخارجية بحدود 50.7 مليار دولار، لكنها في 2016 قفزت إلى 200.3 مليار دولار، أي أنها تضاعفت ثلاث مرات.
وإن كانت نسبة الدين الخارجي للناتج المحلي الإجمالي في 2016 تصل إلى 67.5%، إلا أنه تجاوز الحد الأعلى المتعارف عليه وهو 60% من الناتج البالغ 296 مليار دولار، بنهاية العام، حسب أرقام قاعدة البنك الدولي.
تحقيقات مع مسؤولي شركة سعودية حول فضيحة "الصندوق الماليزي"
فنسبة التجاوز تعتبر بسيطة مقارنة بمديونية غيرها من الدول، سواء الصاعدة أو النامية. والعبرة في تقويم الدين بجوار نسبته إلى الناتج، هي كيف تم توظيفه في خدمة الاقتصاد، هل تم ضخه لتنشيط قطاعات اقتصادية راكدة؟ أو سد فجوة تمويلية ضرورية في مجال إنتاجي، يقوم على سداده مشروعات، أم تم استهلاكه في نفقات جارية وعجز الموازنة العامة.
وثمة ارتباط يمكن استنتاجه فيما يتعلق بارتفاع الفساد والديون في آن واحد، ولابد من فتح ملف الديون الخارجية، خلال الفترة الماضية، فمن السهل في ظل الفساد، أن يتم الحصول على ديون من دون حاجة إليها، أو عدم توظيفها بشكل أفضل.
والتحدي أمام مهاتير، هو إعادة تقويم ملف الديون من جهة، ومن جهة ثانية، أنه من اللائق بماليزيا بعد هذا التاريخ من الأداء التنموي، أن تتحول إلى دولة فائض، لتصدر هي القروض والاستثمارات، أو على الأقل تخفض قيمة الدين الخارجي لمعدلات، لا تجعل منها ورقة ضغط على الدولة.
فمقارنة بأداء تركيا مثلًا، والتي تعتبر حديثة من حيث البعد الزمني في تجربتها التنموية، نجد أنها تحولت إلى دولة مصدرة للاستثمارات والمساعدات والمنح التنموية للدولة التي تربطها علاقات اقتصادية وسياسية جيدة. في الوقت الذي تحرص فيه على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وحريّ بماليزيا مع عودة مهاتير أن تنافس تركيا في هذا المضمار، خاصة أن مهاتير صاحب رؤية تنموية تعظم من جوهر المشروع الإسلام الحضاري، الذي يلقى قبولًا ملحوظًا في العديد من الدول الإسلامية، والذي تبرهن عليه نتائج الانتخابات الأخيرة في البلدان التي تتمتع بنظم ديمقراطية وانتخابات نزيه.
وهذه الخطوة من شأنها أن تعيد أنظار الدول النامية، نحو ماليزيا، سواء في أدائها التنموي أو مسارها التصحيحي المنتظر مع عودة مهاتير للسلطة.
ظلت تجربة ماليزيا أسيرة نطاقها الجغرافي، مع ما تميزت به من تغلّب على مجموعة من التحديات على رأسها التعدد العرقي، وكذلك النهوض بقطاع عمالي مهم من الفلاحين والصيادين، وتحسين مستوى معيشتهم، وتحويل أبنائهم إلى شريحة ملحوظة في مكونات الطبقة المتوسطة، ومديري المشروعات.
لكن لم تلاحظ على التجربة الماليزية سعيها لنقل التكنولوجيا، إلى البلدان النامية، في حين أن التجربة التركية رغم حداثة عهدها، تسعى بشكل ملحوظ، من خلال تقديمها صورة من التعاون مع الدول النامية من خلال المشروعات القائمة على الاستثمارات المشتركة، ونقل التكنولوجيا، وتنظيم العديد من الدورات التدريبية على مستوى الإدارة والصناعة.
ولذلك سيكون أمام مهاتير السعي إلى تقديم نموذج جديد للشراكة والتعاون بين ماليزيا وغيرها من الدول النامية، لكي لا تكون مجرد تكرار للنموذج الرأسمالي القائم على المصلحة من طرف واحد، واستنزاف ثروات الشعوب، وتحويل اقتصاداتها إلى مجرد أسواق للسلع الاستهلاكية.
رغم التحديات التي ذكرناها، والمرشحة لأن تمثل ملفات مهمة على أجندة مهاتير الاقتصادية، إلا أن الرجل لن يبدأ هذه المرة من الصفر، فلديه بنية أساسية قوية في قطاعات الصناعة والزراعة، ونهضة تعليمية وعلمية حقيقية، حيث أصبحت ماليزيا إحدى الوجهات التعليمية للعديد من أبناء الدول النامية.
ولعل حدة المشكلات هذه المرة أقل مما كانت عليه الأوضاع في أزمة 1997، فهذه المرة، سيكون الدور الأكبر هو إعمال دولة القانون.
فضلًا عن أن الرجل له تجربة طويلة، وخبير بمكونات المجتمع الذي لم ينقطع عنه، وكان قراره بالعودة إلى الحياة السياسية مرة أخرى نتاج اندماج قوي مع ما يعيشه المجتمع من مشكلات.
كما أن من عملوا معه خلال فترة وجوده في السلطة قبل ذلك سيكونون أدواته التي سينجز به مشروعه الإصلاحي.
وبقي أن نذكر أن حالة النجاح التي سيحققها مهاتير هذه المرة، هي أن الإصلاح والتنمية مشروع دولة وثقافة مجتمع، ولا ترتبط بشخص وجودًا وعدمًا