تمهد بريطانيا لنفسها كقوة لها اعتبارها على الخريطة الدولية، بعد حسم أمرها في الخروج من الاتحاد الأوروبي، فكانت أفريقيا أول مراسم هذا التموضع الجديد، حيث عقدت قمة الاستثمار الأفريقية البريطانية في 20 يناير/كانون الثاني 2020، بالعاصمة لندن، وبحضور ممثلين لنحو خمسين دولة أفريقية.
ومنذ مطلع الألفية الثالثة، وقمم الشراكة الاقتصادية تتواصل بين أفريقيا والدول الكبرى والصاعدة، مع أميركا والصين والاتحاد الأوروبي وتركيا، وكانت هناك قمة عربية أفريقية، ولكنها لم تحظ بما ظفرت بها الفاعليات مع الكيانات الأخرى.
وكان مقررا أن تُعقد القمة العربية الأفريقية الخامسة بالرياض في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، إلا أن السعودية رأت تأجيلها، لتعقد في الربع الأول من 2020.
وتأتي أهمية تركيز بريطانيا وغيرها من الدول الكبرى والصاعدة لعلاقات اقتصادية وتجارية جيدة مع أفريقيا لعدة أسباب، أهمها أن الأخيرة ما زالت قارة بكرا، ومصدرا مهما للمواد الأولية، فضلا عن أن العديد من البلدان الأفريقية نجحت مؤخرا في الخروج من النزاعات العسكرية واتجهت لبناء تجارب ديمقراطية تساعد على الاستقرار الاقتصادي، لذلك تشهد أفريقيا أعلى معدلات النمو على مستوى العالم خلال الفترة الماضية.
ولا ينبغي أن ننسى أن معظم الدول الأفريقية كانت مستعمرات بريطانية حتى منتصف القرن العشرين، وبلا شك فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يجعلها تعيد النظر في خريطة علاقاتها الاقتصادية والتجارية على مستوى العالم.
وتعد أفريقيا بالنسبة لبريطانيا سوقا يستحق الاهتمام والتركيز، خاصة وأن هذه القارة تفتقد لوجود كيان واحد يمثلها في تعاملاتها الاقتصادية مع الآخر.
وعلى الرغم من وجود الاتحاد الأفريقي ككيان يضم غالبية دول القارة لكن في النهاية تتعامل كل دولة بمفردها في علاقاتها الخارجية على الصعيد الاقتصادي، وهو ما يعطي بريطانيا ميزة أفضل، ويمثل نقطة قوة بالنسبة لها أمام كل الدول الأفريقية.
تقرير الأونكتاد عن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم لعام 2018 يبين أن بريطانيا تستحوذ على استثمارات أجنبية تصل إلى 58.6 مليار دولار، في حين تستحوذ جميع دول أفريقيا على 46 مليارا، وهو ما يعني البون الشاسع بين بريطانيا وأي من الدول الأفريقية على حدة.
وتذهب بعض التقديرات إلى أن التبادل التجاري لبريطانيا مع دول أفريقيا بلغ نحو 33 مليار دولار عام 2018، وأن هناك نحو ألفي شركة بريطانية تعمل في الأسواق الأفريقية، وكذلك تبلغ استثماراتها المباشرة في القارة نحو عشرين مليارا. كما تعد الشركة البريطانية للنفط (BP) من أكبر الشركات من حيث الوجود بالأسواق الأفريقية.
على الرغم من وقوع معظم دول أفريقيا تحت الاحتلال الأجنبي فترات طويلة، ونهب ثرواتها، وكذلك غياب مشروع للتنمية بمعظم بلدانها، فإن القارة مازالت تحتفظ بموارد طبيعية في مجال الزراعة والمعادن بنسب كبيرة، وهو ما يجعل الدول الكبرى ومن بينها بريطانيا حريصة على شراكتها الاقتصادية مع دول أفريقيا.
ويبلغ عدد سكان أفريقيا عام 2017 نحو 1.3 مليار نسمة، وتبلغ المساحة الجغرافية نحو 30.2 مليون كيلومتر مربع، ويتوقع أن تشهد القارة تزايدا كبيرا خلال السنوات القادمة، ويقدر الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2.5 تريليون دولار، وقد بلغ معدل النمو الاقتصادي عام 2018 نحو 4.3%.
وتنتج أفريقيا نحو 5.2 ملايين برميل نفط يوميا، ولديها نحو 12% من احتياطيه العالمي، وقرابة 10% من احتياطيات العالم من الغاز، وبلا شك فإن معدلات النمو الطموحة لأفريقيا خلال الفترة القادمة ستجعلها بحاجة شديدة لكل احتياطاتها من النفط والغاز، ولذلك تتوجه العديد من الدول الأفريقية للاستفادة من إنتاج الطاقة المتجددة.
كما تمتلك أفريقيا نسبة 18% من إنتاج اليورانيوم المستخدم في الصناعات النووية، ولديها 33% من احتياطيات العالم من هذا الخام، كما تنتج 40% من الإنتاج العالمي من الألماس.
وتستحوذ أفريقيا على 25% من الإنتاج العالمي للذهب، كما يتوفر بها 50% من احتياطيات الذهب على مستوى العالم.
إضافة إلى ذلك فإن أفريقيا تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، تقدر بنسبة 60% من الأراضي الزراعية على مستوى العالم، ولكن لا تحظى بالاستغلال الأمثل، وجانب كبير منها غير مزروع.
إذا كانت أفريقيا بجميع دولها حصلت على نصيب 46 مليار دولار عام 2018 من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإن دول أفريقيا جنوب الصحراء وحدها فازت بنحو 32.2 مليار دولار من هذه الاستثمارات، أي أخذت نسبة 70% من إجمالي حصة القارة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
ويرجع إقبال الدول الكبرى والصاعدة على الاستثمار والعلاقات التجارية مع دول أفريقيا جنوب الصحراء، بسبب تحسن أوضاعها الاقتصادية على مدار العقدين الماضيين، وثمة دراسات لبيوت خبرة أوروبية وأميركية تذهب إلى أن ثمة تحسنا ملحوظا في متوسط دخل الأسر بهذه المنطقة، مما يعني ارتفاع معدلات استهلاكهم، وبخاصة ما يتعلق بقطاع الصناعة والتكنولوجيا.
وهناك حضور قوي للشركات متعددة الجنسيات في أفريقيا جنوب الصحراء، وبخاصة في قطاع التكنولوجيا المالية، حيث وجدت شركات (تينسينت، فيزا، ماستر كارد) ويرصد تقرير وحدة معلومات إيكونوميست ضخ 25 مليار دولار من قبل شركات الأموال الخاصة في عموم أفريقيا بين عامي 2013 و2018، في حين ضخت شركات رأس المال المخاطر 725 مليون دولار في عموم أفريقيا أيضا عام 2018.
وبلا شك فإن دول هذه المنطقة بحاجة ماسة لتمكينها من امتلاك بنية أساسية في كافة القطاعات، وهو ما يمثل فرصة لإنعاش اقتصاديات الشركات التابعة للدول الكبرى والصاعدة، ويساعد دول جنوب الصحراء على تنفيذ مثل هذه المشروعات انخفاض سعر الفائدة في أوروبا، وامكانية الاعتماد على القروض لتمويل تلك المشروعات التي ستمكنها فيما بعد من الاستفادة بشكل كبير من استغلال مواردها الطبيعية.
ولا يخفى نموذج رواندا التي أصبحت محط أنظار الشركات الكبرى، وكذلك الاستثمارات من قبل الدول الصناعية، حيث تم تطوير البنية التحتية لهذه الدولة. وبدأت الدخول في مجال الصناعة، وظهر مؤخرا إنتاجها لسيارات ماركة عالمية تم تصنيعها بالكامل داخل أراضي رواندا، وغيرها من الصناعات الأخرى مثل الهواتف الذكية وغيرها.
وهو ما يجعل احتمال أن يتكرر نموذج النهوض لدول جنوب شرق آسيا الذي بزغ في تسعينيات القرن العشرين.
مبكرا ذهبت الصين لتوطيد علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا، عبر قمتها الدورية، وضخ الاستثمارات، وإسقاط الديون عن الدول الأشد فقرا، وقد قدرت استثماراتها في أفريقيا بنحو 1.7 تريليون دولار الفترة من 2005–2018.
وكذلك فعلت الهند التي استهدفت أفريقيا مع مطلع الألفية الثالثة، فبلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين عام 2015 نحو سبعين مليار دولار، كما ضخت الهند استثمارات مباشرة في أفريقيا بنحو 13.6 مليارا
أما تركيا فقد اتجهت نحو أفريقيا بشكل جاد منذ عام 2003، وعام 2018 قدرت الاستثمارات التركية في هذه القارة بنحو ستة مليارات دولار، وتبلغ قيمة التبادل التجاري بين تركيا ودول ألقارة أكثر من عشرين مليار دولار.
وتضيف أنقرة لعلاقاتها التجارية والاقتصادية مع أفريقيا جانبا إنسانيا يتعلق بمنح البعثات الدراسية للطلاب الأفارقة، وأعمال الإغاثة والمساعدات التنموية.
ختاما تظل أفريقيا شأنها شأن باقي دول الجنوب، تدخل في اتفاقيات وشراكات، ولكن المحصلة النهائية أنها في صالح الدول المتقدمة، فالعلاقة غير متوازنة القوى، فضلا عن غياب وجود حكومات قوية وأجندات وطنية للتنمية.
لذلك فالمتغير الوحيد في الشراكة الاستثمارية -التي أعلن عنها في 20 يناير/كانون الثاني 2020 في لندن- سيكون في صالح بريطانيا بشكل كبير، وإن حققت بعض المنافع لأفريقيا.