كانت سياسة إفقار الجار من أقدم صور الحروب الاقتصادية بين الدول بالقرنين الـ18 والـ19. وبعد بروز العولمة الاقتصادية وما يسمى الاقتصادات المفتوحة وحرية التجارة، اختلفت صور الحروب الاقتصادية، فلم يعد إفقار الجار بمنع استيراد منتجاته وإغراق أسواقه بالسلع المستوردة، وإنما بجعله يفقد أهم موارده من السلع الإستراتيجية حتى تصبح عبئا عليه، ويسعى لبيعها بثمن بخس.
وهذا هو السيناريو الدائر بعالم النفط الآن، فبعد أن لجأت الدول الغربية إلى سلاح العقوبات الاقتصادية تجاه إيران منذ سنوات، وتجاه روسيا منذ نحو عام، بدأت منذ منتصف العام الحالي حرب تفريغ سلاح النفط من مضمونه الاقتصادي، فتهاوت أسعار النفط لتصل إلى سبعين دولارا للبرميل بعد أن كانت بحدود 104 دولارات نهاية يونيو/حزيران 2014، بانخفاض قدره 35 دولارا.
ففي سنوات خلت، حاولت إيران التغلب على العقوبات عبر سياسة ما يعرف بـ "النفط الرخيص". وكانت أجواء أسعار النفط بالسوق العالمية تساعدها على ذلك، حيث كانت أسعار السوق فوق المائة دولار، وكانت طهران تعرض أسعارا أقل من ذلك لصالح الصين والهند في البداية ثم تركيا فيما بعد، ولذلك سعت هذه الدول لاستثنائها من العقوبات الغربية فيما يخص تلك الحصص النفطية الرخيصة.
واتخذت روسيا النهج نفسه منذ توتر علاقاتها مع أوروبا وأميركا جراء الأزمة الأوكرانية، وكانت الصين أكبر المستفيدين من ذلك، وفي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس الاثنين إلى تركيا حضر ملف النفط والغاز بقوة، إذ تريد أنقرة تخفيض أسعار الغاز المستورد من روسيا، وزيادة الكميات الموردة منه.
غير أن تجربة كل من طهران وموسكو في التعامل مع وقع العقوبات الاقتصادية مختلفتان، فإيران تتوفر على تجربة طويلة تفوق ثلاثة عقود، حاولت خلالها ترويض بعض الدول عبر المصالح الاقتصادية وبخاصة ورقة النفط، فكانت تعرض نفطها بأسعار أقل مما هو سائد بالسوق أثناء موجة ارتفاع الأسعار.
بالمقابل، كشفت العقوبات على روسيا -التي كانت تأمل استعادة مكانتها الدولية عبر مجموعتي العشرين وبريكس، بأن موسكو لا تمتلك مقومات اقتصاد قوي، حيث انهارت عملتها بشكل كبير وكذلك أسواقها المالية، وبدأت هي الأخرى تلجأ إلى ورقة النفط الرخيص، ولكن انخفاض أسعار النفط عالمياً أفسد خطط إيران وروسيا معاً في توظيف هذه الورقة في إدارة أزمتهما مع الغرب.
بعد حالة من التفاؤل المفرط في إيران بسبب عودة مفاوضتها مع القوى الكبرى حول برنامجها النووي، وسماح واشنطن بإلغاء تجميد بعض الودائع الإيرانية المجمدة، ظن البعض أن الرئيس الإيراني حسن روحاني بأنه سيغير قواعد اللعبة في العلاقات مع أميركا، وإنهاء الحظر الأميركي المستمر منذ ما يزيد على ثلاثين عاما.
غير أن اصطدام وجهات النظر بين أميركا وإيران من جهة، وإيران ودول الخليج من جهة أخرى، حول القضايا الإقليمية، أوجد هذه الحالة من الحرب في سوق النفط، فلم يدم طويلًا حلم الإيرانيين بتدفقات هائلة من عوائد النفط عند سعر مائة دولار للبرميل، وإن كانت تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن السعر المناسب لتغلب إيران على مشاكل موازنتها العامة هو 130 دولارا للبرميل.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن وزير النفط الإيراني بيجن زنجنه أن بلاده بصدد السحب من صندوق الثروة السيادية لتعويض أثر انخفاض أسعار النفط على الموازنة، وذلك لسداد مستحقات داخلية، ويقدر ما تمتلكه إيران بهذه الصناديق بـ62 مليار دولار.
ولكن إذا استمرار هبوط النفط عند مستوى سبعين دولارا فستجد إيران نفسها أمام تحد مالي كبير، ولن يجدي معها منح تخفيضات أكبر عن سعر السوق لترويج النفط الإيراني.
إن تبعات اختلال الموازنة الإيرانية لعامي 2014 و2015 قد يرجع اقتصاد البلاد إلى الركود بعدما لاحت بوادر على انتعاشه وتحسن معدلات نموه.
ففي ظل تشديد العقوبات، تراجع الناتج المحلي الإجمالي لإيران من 502 مليار دولار عام 2012 إلى 368 مليارا عام 2013، وذلك بسبب انضمام الاتحاد الأوروبي لفرض العقوبات، وقبول اليابان بتنفيذها، وتعد الأخيرة من أكبر مستوردي النفط الإيراني.
ومن أجل مواجهة العقوبات، اتخذت روسيا منذ فترة سياسة نقدية تهدف إلى تقليل خسائرها بسبب سعر الصرف، إذ سمحت بتعويم العملة، على الرغم من هبوط قيمتها بعد فرض العقوبات.
ومع ذلك، لم ينجُ احتياطي روسيا من النقد الأجنبي من الهبوط، فبنهاية 2013 تراجع إلى 509 مليارات دولار، بعد أن كان 537 مليارا نهاية 2012، في حين تشير الإحصائيات إلى أنه بنهاية أكتوبر/تشرين الثاني الماضي بلغ الاحتياطي 428.6 مليارا، ليفقد بذلك الاحتياطي قرابة مائة مليار مقارنة بما كان عليه نهاية 2012.
وفي ظل تهاوي أسعار النفط، يتوقع أن يستمر نزيف الاحتياطي الروسي، سيما وأن سياسة موسكو الاقتصادية تهدف لإحداث حالة من الرواج الاقتصادي للخروج من حالة الركود.
ويقول النقد الدولي إن روسيا تحتاج لسعر مائة دولار للبرميل لإحداث توازن بموازنتها، وقال وزير الاقتصاد قبل أيام إن بلاده ستقلص توقعها لسعر النفط خلال 2015 دون أن يقدم رقما محددا.
وقدرت موسكو حجم خسائرها جراء الانخفاض الكبير لأسعار النفط بما بين تسعين مليار دولار ومائة مليار، وأضر ذلك بالوضع المالي، إذ بعد تحقيق موازنتها لعام 2012 فائضا قدره 1% من الناتج المحلي، سجلت العام الماضي عجزا ماليا بنسبة 0.5%، وينتظر أن يتفاقم العجز إلى 1% بنهاية العام الجاري.