استقرت النظم المالية في بلادنا وفق أدوات الاقتصاد الرأسمالي، وبخاصة بعد سيطرة اقتصاديات العولمة على مقدرات الاقتصاد العالمي في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وحتى مع بزوغ نجم الصين والدول الصاعدة، وما يراه البعض من إمكانية تغيير خريطة القوى الاقتصادية العالمية، فإن البديل لأمريكا والغرب ليس لديه مشروع بديل للاقتصاد الرأسمالي.
وفي صورة تعكس حالة الحيرة التي تتملك المسلمين في ذلك العصر، فقد شبه د أورل يارار -رئيس المنتدى الدولي لرجال الأعمال بتركيا- وضع المسلمين في التعامل مع الحياة الاقتصادية العالمية في ظل الاقتصاد الرأسمالي، بسجن يضم المسلمين، ويُقدم لهم فيه ماء ممزوج بالكحول وطعام تم طهيه بدهن الخنزير، وذهب من في السجن للتفكير في كيفية التخلص من الكحول ودهن الخنزير من طعامهم وشرابهم، وذهب البعض الآخر ليسأل عن فتوى لاعتبارهم مضطرين لتناول هذا الطعام والشراب، ولكنهم لم يفكروا في التخلص من هذا السجن، والعيش في رحاب الحرية.
وهذا الوصف بالغ الدقة، حيث نجد من يطالب المؤسسات المعنية بالفتوى مثلًا بالاجتهاد في إلغاء أحكام الربا في ضوء قيود النظام الرأسمالي، ولا يكلف نفسه عناء البحث عن التمويل بالمشاركة، وإعمال القاعدة الثابتة والمعروفة “الغنم بالغرم”، أي أن النشاط قابل للربح والخسارة. ويذهب البعض في تجارب أخرى لكي يأتي بالأدوات والصيغ الرأسمالية ويجتهد في تهذيبها، وبطبيعة الحال، عادة ما تشوبها بعض الشواب، على الرغم من أنه جهد مشكور.
أو أن يجتهد البعض ويتعب نفسه في البحث عن أمور أقرها النظام الاقتصادي الإسلامي، ويقدمها باعتبارها تتماهي مع النظام الرأسمالي، ولكن حقيقية الأمر أن هذا التشابه في الأدوات، لا يعني الاتفاق في الثوابت والأهداف. فكون النظام الاقتصادي الإسلامي يحترم الملكية الخاصة، ويطلق لها العنان، إلا أن ذلك لا يمنع الملكية العامة، وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وحرص الدولة على تحقيق أهداف معتبرة مثل عدالة توزيع الثروة، أو التقارب بين شرائح المجتمع المختلفة.
فالاستثمار في بعض الأنشطة الترفيهية قد يأتي في إطار المباح من حيث أدواته وممارسته، ولكن في ضوء أولويات المجتمع، هناك ضروريات لم يتحصل عليها المجتمع بعد، ويكون توجيه الاستثمار هنا أولوية لصالح الضرورات، والالتزام هذا من قبل المسلم تجاه هذا الترتيب، مبعثه القيد الذاتي لفلسفة امتلاك المال، وكذلك ما تقدمه الدولة من محفزات لتوجيه الاستثمار تجاه الضروريات عبر ما يعرف بالتخطيط التأشيري.
والحل من وجهة نظر يارار -والذي طرحه في مؤتمر الأسواق المالية الإسلامية بين الواقع والواجب، والذي نظمته الأكاديمية الأوربية للاقتصاد والتمويل الإسلامي، بإسطنبول يومي 8 و9 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أن يستدعي المسلمون نموذج سوق المدينة الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه سلم عقب هجرته بالمدينة، لتكون هذه السوق في خدمة المسلمين وتعمل على تلبية احتياجاتهم في العصر الحالي، ليس المطلوب الانكفاء على الذات، ولا مقاطعة غير المسلمين، ولكن مراعاة اعتبارات الحلال والحرام، وكذلك العمل على نهوض الدول الإسلامية، واستثمار مواردها الاقتصادية المتعددة، لامتلاك أدوات القوة التي تفرضها متطلبات العصر.
نعم هناك محاولات من قبل أفراد ومؤسسات إسلامية، لتقديم بديل، وإن كان مشكلة بعض هذه الأطروحات أنها تدور في فلك الاقتصاد الرأسمالي، وذلك بسبب غياب وجود دولة إسلامية ترعى التجربة بشكل كامل، ولا مانع من التدرج، لعدم الاصطدام بالواقع وتعطيل مصالح الناس.
وفي إطار الواقعية والتدرج، ذكر د.علي القرة داغي – الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- في جلسات المؤتمر نفسه، أن البنوك الإسلامية بدأت منذ أكثر من 30 سنة في أول تجربة للبنوك الإسلامية برأسمال لا يتجاوز 25 مليون دولار، واليوم بلغت الأصول الرأسمالية الإسلامية 2.25 تريليون دولار في مجالات المصارف والتكافل والصكوك، ويتوقع القرة داغي أن تصل هذه الأصول إلى 4 تريليونات دولار في 2022.
ومن القيود التي تفرضها الرأسمالية، وتعاني منها الدول الإسلامية كذلك، فرض الدولار على التعاملات الخاصة بالتسويات المالية والتجارية، حيث منيت الثروات الإسلامية بخسائر كبيرة، سواء كانت مدخرات أو استثمارات، بسبب السياسات النقدية المتعلقة بخفض قيمة العملة الأمريكية، أو سعر الفائدة عليها، ولذلك دعا القرة داغي في المؤتمر نفسه إلى ضرورة وجود عملة نقدية للدول الإسلامية مستقلة عن الدولار.
إلا أن هذه الخطوة تتطلب مراحل عدة قبلها، من ضرورة وجود قاعدة إنتاجية قوية للدول الإسلامية، ثم تعاون تجاري واقتصادي قوي بين الدول الإسلامية، ثم تأتي بعد ذلك خطوة العملة النقدية، كما تصرفت الصين، فبعد حضورها القوي في الاقتصاد العالمي، طرحت عملتها للسوق الدولية، وكوحدة لحساب الاحتياطيات الدولية، وكذلك فعل الاتحاد الأوربي، الذي تمثل تعاملاته التجارية البينية 65% من تجارته الدولية.
إن الخروج من سجن الرأسمالية الضيق إلى رحابة الإسلام، لن يتحقق إلا إذا ركزت برامج التنمية في الدول الإسلامية على الإنسان والارتقاء به، واستحضار المقاصد العامة للشريعة الإسلامية في كافة مناحي الحياة، وليس فقط مجرد المقاصد الخاصة بالمال، والحياة الاقتصادية، ورد وظيفة المال في الحياة في إطارها الصحيح لكونه وسيلة وليس غاية، وأن الإنسان مستخلف في هذه الملكية، وأنه محاسب عليها.
فالإسلام له فلسفته الخاصة تجاه المال، والموارد الاقتصادية بصفة عامة، بعيدًا عن النظم الاقتصادية المعروفة، الرأسمالية منها أو الاشتراكية، فمعاش الناس وربط حياة المسلم بالآخرة، كان مناط الحضارة الإسلامية، ومجال عمل الفقه الإسلامي، بل ودور الدولة كان يدور حول هذه الوظيفة.