تمتد العلاقات الاقتصادية الأمريكية لفترات طويلة خلال القرن العشرين، باستثناء فترة ما بعد هزيمة 1967 وحتى انتصار اكتوبر 1973، فقبل 1967 كانت مصر ضمن لائحة الدول المستفيدة من المعونة الأمريكية، وبخاصة في مجال الغذاء.
وبعد انتصار أكتوبر 1973، كانت المعونة الأمريكية أبرز صور التعاون الاقتصادي المصري الأمريكي، وبلغت المعونة الأمريكية لمصر ذروتها في عقد الثمانينيات، إلا أنها مع مطلع الألفية الثالثة تقلصت بشكل كبير حتى وصلت إلى 1.25 مليار دولار حاليًا، منها مليار دولار معونة عسكرية، والباقي ينفق على جانب تطوير السياسات الاقتصادية والاجتماعية، دون دخول المعونة الأمريكية في تمويل مشروعات عامة، كالصرف الصحي أو مياه الشرب كما كان من قبل.
وتقدر الأموال التي حصلت عليها مصر من المعونة الأمريكية منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن بنحو 60 مليار دولار. ولكن لم يكن ملف المعونة الأمريكية هو الوحيد في إطار العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فقد شكلت الاستثمارات المباشرة لأمريكا في مصر جانبًا مهمًا في هذه العلاقة، حيث تركزت هذه الاستثمارات بشكل رئيس في صناعة النفط، وبعض المشروعات الصناعية المحدودة للشركات متعدية الجنسيات.
أيضًا حظيت المعاملات التجارية بركن بارز في هذه العلاقة، حتى كانت أمريكا خلال التسعينيات تمثل الشريك التجاري الأول لمصر، ثم تغير الوضع لصالح الاتحاد الأوروبي مع مطلع الألفية الثالثة. وبشكل عام كان هناك إطار حاكم للعلاقات الاقتصادية الأمريكية، يدور في إطار مد مصر ببعض عوامل المساعدة من المعونات أو غيرها من الاستثمارات، أو التعاملات التجارية، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى خروج مصر من أزمتها الاقتصادية الدائمة، والعمل على ألا تخرج مصر من كونها دولة نامية.
فتظل مصر تدور في إطار الدور الأمريكي المرسوم لها في المنطقة، وحتى لا تتحول مصر إلى دولة تتمتع بالاستقلال الاقتصادي الذي يمكنها من أن يكون لها دور سياسي إقليمي يغير من طبيعة القوى الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط.
ولم تتغير تلك العلاقة بين مصر وأمريكا على مدار تغير القيادة الأمريكية، على مستوى رؤسائها، سواء من الجمهوريين أو الديمقراطيين، ولكن مع مجيئ الرئيس الأمريكي الجديد “ترامب” في مطلع عام 2017، يعتقد البعض أن أمريكا سوف تشهد تغيرًا في علاقاتها الاقتصادية مع مصر، نظرًا لطبيعة الدور الذي يقوم به السيسي ونظامه الانقلابي في مصر تجاه المصالح الإسرائيلية. أو أن أمريكا ستمثل عاملًا مهمًا في إخراج مصر من أزمتها الاقتصادية الحالية.
وفيما يلي نستعرض طبيعة العلاقات الاقتصادية المصرية الأمريكية، ثم نعقب بعد ذلك بتوقعاتنا لمستقبل تلك العلاقة في عهد ترامب.
وتظهر البيانات الواردة بالجدول عاليه أن عام 2015/2016 شهد انخفاضًا حادًا في العلاقة التجارية بين البلدين، حيث وصل لنحو 63% مما كانت عليه في عام 2014/2015، وذلك لطبيعة الأداء السلبي للاقتصاد المصري خلال هذا العام، حيث تراجعت التعاملات الخارجية لمصر بشكل عام.
كما توضح البيانات أن الأصل هو وجود عجز في الميزان التجاري لمصر مع أمريكا، وهو ما ظهر في عام 2014/2015/2016 بنحو 1.7 مليار دولار، ثم 1.3 مليار دولار في عام 2015/2016. ولم تكن بيانات الربع الأول من عام 2016/2017 بعيدة عن الأداء الطبيعي للعلاقات التجارية، حيث عانت مصر من عجز بميزانها التجاري مع أمريكا بنحو 385 مليون دولار.
وتقتصر الصادرات المصرية لأمريكا على الملابس الجاهزة والنفط والقطن الخام، ومنذ عام 2005 تعتبر الملابس الجاهزة عماد الصادرات المصرية لأمريكا، بعد توقيع اتفاقية “الكويز” التي سمحت للصادرات المصرية من الملابس الجاهزة لدخول أمريكا بدون ضرائب أو جمارك، شرط أن تحتوي على مكون إسرائيلي لا يقل عن 11%.
بينما تعتمد مصر على واردات من أمريكا تتمثل في العدد والآلات ووسائل النقل، والقمح الذي يحتل مرتبة متقدمة في العلاقات التجارية بين البلدين، حيث تعتبر مصر المستورد الأول للقمح على مستوى العالم.
تحتل أمريكا مرتبة متقدمة في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر، وهو ما تظهره بيانات البنك المركزي المصري بالنشره الاحصائية لشهر فبراير 2017، وفيما يلي نستعرض الأرقام الخاصة بمساهمة الاستثمارات الأمريكية في مصر خلال الفترة 2011/2012 – 2015/2016.
مثل عام 2011/2012 استثناء في تدفق الاستثمارات الأمريكية لمصر، نظرًا لما تم بعد ثورة 25 يناير، ولكن في المتوسط لا تقل الاستثمارات الأمريكية لمصر عن نسبة 30% من صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي لمصر. وتتركز الاستثمارات الأمريكية بمصر في قطاع استخراج النفط. ولكن لا يوجد أثر ملموس لاستثمارات أمريكا بمصر في القطاعات الإنتاجية الأخرى مثل الزراعة أو الصناعة، اللهم إلا بعض الشركات متعدية الجنسية في قطاع الدواء.
يمثل قطاع السياحة لمصر نشاطًا اقتصاديًا مهمًا، ولكنه منى بخسائر ضخمة عقب الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، ولكن عدد السياح الأمريكيين لمصر لا يمثل أهمية كبيرة في إجمالي أعداد السائحين لمصر، حتى في فترة رواج السياحة المصرية، قبل ثورة 25 يناير 2011. وذلك حسب البيانات التي عرضتها نشرة الجهاز المركز للتعبئة العامة والإحصاء، والتي نشير إليها في الجدول التالي.
جدول (3) عدد السائحين الأمريكيين لمصر خلال الفترة 2009 – 2015 (العدد بالألف)
المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، نشرة مصر في أرقام، مارس 2017.
بالاطلاع على بيانات الجدول عاليه نجد أن أفضل السنوات التي تدفق فيها السائحون الامريكيون لمصر هي عام 2010 حيث زاد عددهم عن النصف مليون سائح، ولكن نسبتهم من إجمالي عدد السائحين لمصر في نفس العام بلغت 3.8%.
وقد وتراجعت أعدد السائحين الامريكيين بعد عام 2010، وكانت في عام 2015 بحدود 294 ألف سائح، وبنسبة تصل إلى 3.2% من إجمالي السائحين الوافدين لمصر من نفس العام. ومن هنا نجد أن محور السياحة الأمريكية في مصر، هو أضعف حلقات العلاقات الاقتصادية بين البلدين من حيث التأثير، مقارنة بمحور العلاقات التجارية، أو الاستثمارات المباشرة.
جاءت زيارة قائد الانقلاب العسكري في مصر إلى الولايات المتحدة، في بداية أبريل 2017، لتثير التساؤلات حول مستقبل مستقبل العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وقبل أن نصل لنتيجة فيما يتعلق باستشراف علينا أن نسرد الحقائق الآتية:
1ـ تبنى الرئيس الأمريكي الجديد ترامب، سياسة عامة عنوانها “أمريكا أولًا”، وبالتالي سيكون تركيز أمريكا اقتصاديًا على الداخل، وهو ما ظهر من خلال اصطدام إدارة ترامب مع المانيا والصين والمكسيك في قضية حماية التجارة، وكذلك منع المهاجرين المكسيك لأمريكا. ومن هنا ستكون إدارة ترامب شديدة الحرص فيما يتعلق بضخ المزيد من المعونات لصالح مصر.
2ـ السياسة النقدية لأمريكا تركز على ما يسمى “الدولار القوي” وبالتالي اتجهت أمريكا إلى رفع سعر الفائدة، من أجل جذب المزيد من الاستثمارات، ويشهد الاقتصاد الأمريكي حالة من الانتعاش منذ عام 2016 وبدايات عام 2017، تمثلت في انخفاض معدل البطالة لأقل من 5%.
3ـ ستكلف السياسة النقدية لأمريكا مصر أعباءً اقتصادية لا تناسب ظروفها من تدهور اقتصادي واضح، فارتفاع الدولار يعني استمرار انخفاض قيمة العملة المصرية التي تعاني من تراجع شديد تجاوز نسبة 100% منذ نوفمبر 2016، وكذلك سوف يستمر البنك المركزي المصري في رفع سعر الفائدة، وذلك تواكبًا مع السياسة النقدية الأمريكية، ويرجع ذلك لارتباط الاقتصاد المصري بالدولار كعملة دولية، في تسوية كافة التعاملات الخارجية.
4ـ لم تعد المعونات الخارجية تجدي لمعالجة المشكلات الاقتصادية لمصر، بسبب أن السياسة الاقتصادية لازالت بعيدة عن بناء قاعدة انتاجية، وتعتمد على المعونات الخارجية لتسيير الأوضاع المعيشية والوفاء بمتطلبات النشاط الاقتصادي، لذلك لازالت قيمة الناتج المحلي ومعدلات نموه محدودة.
وبناء على ما سبق، سوف تظل العلاقات الاقتصادية لمصر وأمريكا في عهد ترامب على ما هي عليه، من معونات محدودة بسقف 1.25 مليار دولار، منها مليار دولار معونة عسكرية، ولكن في أحسن الأحوال قد تشهد زيادة ولكنها غير مؤثرة.
وكذلك الاستثمارات الأمريكية ستظل في إطار استخراج النفط، ولن تتحول إلى المجالات الإنتاجية في قطاعات الزراعة أو الصناعة، كما لن يتم توطين تكنولوجيا أمريكية في بيئة الاقتصاد المصري، كما أن ملف العلاقات التجارية سيكون أسير القمح وبعض العدد والألات من أمريكا، مقابل الملابس الجاهزة والقطن الخام من مصر.
إلا أنه في المقابل، قد تكون المساعدات الأمريكية لمصر خلال فترة ترامب من خلال الأبواب الخلفية، بتوجيه بعض دول الخليج لتقديم بعض المساعدات، أو تمويل بعض المشروعات في قطاع الخدمات، كالسياحة والعقارات والموانئ، أو القطاع المالي. لتبقى الاستراتيجية الأمريكية في العلاقات الاقتصادية مع مصر، في إطار أن تظل مصر على وضعها من ضعف اقتصادي، وعدم امتلاك مقدرات تساعدها على لعب دور إقليمي، خارج منظومة دعم أمن دولة الكيان الصهيوني (1).