فور إعلان منظمة الصحة العالمية اعتبار فيروس كورونا وباء عالميا، استنفرت الحكومات على مستوى العالم لاتخاذ التدابير الاحترازية، وتدرجت آليات التعامل مع الأزمة في مجالات متعددة، كان التعامل الاقتصادي من بينها، حيث ركزت حزم التحفيز على الجانب الإنساني، وما تسببه الأزمة من فقدان فرص العمل أو تأخير رواتب العاملين أو تخفيضها.
كما لم يغب عن معظم الحكومات هؤلاء العمال الذين يعملون في السوق غير المنظم، أو العاملون لبعض الوقت، فكان لهم اهتمام خاص، وإن كان محدودا من حيث القيمة المالية، وقد اختلف الدعم المقدم لهذه الفئة من دولة لأخرى حسب المقدرة المالية.
غير أن الوقت يبقى عاملا مهما في قياس مدى قدرة الدول على الاستمرار في دعم العمالة، فغالبية حزم التحفيز تضمنت إما الدعم المقدم لنحو ثلاثة أو ستة أشهر، أو الدعم المقدم للعمالة في السوق غير المنظم لمرة واحدة، وهذا يضع غالبية دول العالم أمام تحد كبير إذا ما تجاوزت الأزمة فترات الدعم، ماذا ستفعل الدول؟
هل ستمدد برامج دعمها مرة أخرى؟ هل ستترك العمال وأرباب العمل ليتوصلوا لحل بشأن الأجور؟ الإجابة هي أن الحكومات طرف ثابت في علاقة العمل التي تضم الحكومة وأرباب الأعمال والعمال، وليس من صالح الحكومات أن تعرض العقد الاجتماعي القائم بها إلى خلليعصف باستقرار المجتمعات.
ففي حالة عجز القطاع الخاص عن دفع الرواتب، فستكون الحكومات أمام التزام إنساني لدفع رواتب العاملين، وإن كان بنسب أقل. وبلا شك قد يدفع هذا الأمر الحكومات إلى الاستدانة، وإن تعذر الأمر قد تلجأ الحكومات لطباعة النقود.
وقد يكون الدرس المستفاد من أزمة كورونا على صعيد الحماية الاجتماعية، أن يكون هناك نظام يحمي من لا يستفيدون من شبكات الحماية القائمة على دفع الاشتراكات، أو أولئك المهمشين والضعفاء.
وهناك مفهوم خاطئ لدى البعض بأن مصطلح "عامل" يطلق فقط على العمال في القطاع الحرفي أو من يقومون بأعمالهم على خطوط الإنتاج، من خلال مجهودهم العضلي، أو العاملين في القطاع الزراعي وغير ذلك، غير أن الصحيح هو أن مصطلح "عامل" يطلق على كل من يقوم بعمل مقابل أجر، أيا كان مجاله.
الوضع في الدول العربية لا يمكن الحديث عنه بوتيرة واحدة، حيث يختلف الأمر من دولة إلى أخرى، وبخاصة أن علاقات العمل في المنطقة العربية غير مستقرة، وثمة فروق واضحة بين العاملين في القطاع العام أو الحكومي، والعاملين في القطاع الخاص.
وثمة أمر مهم يتعلق بالمنطقة العربية، حيث تعتبر العمالة في السوق غير المنظم هي الأصل، وهو تحد كبير، بسبب الأعباء الاجتماعية التي تقع على عاتق هؤلاء العمال في ظل قرارات الحظر الكلي أو الجزئي.
وقد اختلفت ردود الأفعال في الدول العربية، حيث لوحظ أن العاملين بالقطاع الحكومي والقطاع العام لم يتم التطرق إلى رواتبهم بالتخفيض أو التأجيل، وهو ما يجعلهم في مأمن من أي قرارات تمس دخولهم.
أما العاملون في القطاع الخاص فقد ترك أمرهم للشركات، ولم يلاحظ وجود أي دور للمنظمات النقابية أو العمالية في هذا الخصوص.
بعض البلدان مثل الإمارات، مثلا، اتخذت فيها شركات كبرى قرارات تتعلق بتخفيض رواتب العاملين بها بنسبة تتراوح بين 30% و80%، وكذلك في مصر كانت هناك شركات ضمنت رواتب العاملين لنحو ثلاثة أشهر، وأعلنت عن استعدادها لتحمل رواتب العاملين لأكثر من ذلك، بينما دعا آخرون لتخفيض الرواتب بنحو 50%، والبعض دعا إلى عودة العمال لممارسة أعمالهم مخافة التأثير السلبي على الاقتصاد.
أما العمال في القطاع غير المنظم، فقد أعلنت مصر أنها ستقدم إعانة لمرة واحدة بنحو 31 دولارا، وفي المغرب تعهدت الحكومة بتقديم دعم مادي بحدود من 80 دولارا إلى 120 دولارا للعمال في السوق غير المنظم، أما تونس فتبنت برامج لدعم الأسر الفقيرة والمهمشة، دون تسمية لطبيعة العاملين.
بقي كل من السودان والعراق والأردن والجزائر بلا التزامات حكومية معلنة لتأمين احتياجات العمالة بالسوق غير المنظم، وبعضها ترك الأمر للتكافل الاجتماعي عبر الجمعيات الخيرية، وفي فلسطين تم التوصل لاتفاق بأن تدفع مؤسسات القطاع الخاص 50% للعمال خلال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان، على أن تستكمل الرواتب بعد انتهاء الأزمة.
وتعد منطقة الخليج، ذات سمات مختلفة عن باقي دول المنطقة العربية، بسبب غلبة العمالة الأجنبية في سوق العمل، وقد تخوفت المنظمة الدولية لحقوق الإنسان من أن يتعرض العاملون الأجانب بدول الخليج لمخاطر عدم الحصول على رواتبهم في ظل أزمة كورونا، أو تأخيرها أو تخفيضها، وهو ما يعد إهدارًا لحقوق هؤلاء العمال.
سمحت الأوضاع المالية لكل من الولايات المتحدة ودول أوروبا بأن تبادر بتقديم الدعم للعمال، سواء كانوا في أعمال منتظمة أو غير ذلك، حتى تستطيع الأسر عيش حياتها بشكل شبه طبيعي، في ظل أزمة كورونا، وبما يضمن الاحتياجات الأساسية.
ففي أميركا، كانت حزمة التحفيز الكبيرة، بنحو 2.2 تريليون دولار، تتضمن نحو 250 مليار دولار للتوسع في تقديم إعانات البطالة، ونحو 850 مليارا قروضا للشركات المتوسطة والصغيرة بشرط الحفاظ على العمالة، وكان هناك نحو 290 مليارا دعما مباشرا للأسر المتضررة بنحو 3 آلاف دولار للأسرة بحد أقصى.
أما أوروبا فاختلف الوضع فيها من بلد إلى آخر، ففي السويد قدمت الحكومة 28 مليار يورو لمواجهة الأزمة، بحيث تُدفع الحصة الأكبر من أجور من يتم تسريحهم من وظائفهم، كما أمهلت الشركات بتأخير دفع الضرائب، وهو ما يفتح الباب للشركات بالحفاظ على العمالة لديها.
الدانمارك كانت أكثر تحديدا في تحمل المسؤولية الاجتماعية عبر مشاركة الحكومة والبرلمان ومجتمع الأعمال، حيث تم الانتهاء من خطة استغرقت 24 ساعة فقط، تم بموجبها تأمين 90% من الرواتب لكل العاملين، وبلا شك بأن مثل هذه الحلول تمنح نوعا من الثقة بين مختلف الشركاء الاقتصاديين، وتمنح الجميع الإحساس بالأمن الاجتماعي.
وفي نيوزيلندا، رُصد نحو 6.5 مليارات يورو لمواجهة الأزمة من خلال دعم أجور العمال والإعفاءات الضريبية.
وفي إسبانيا كان الأمر أكثر تفاعلا مع التداعيات الاجتماعية لأزمة كورونا فيما يخص دخول الأسر ورواتب العمال، حيث أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية أنها تخطط لتأمين دخل ثابت للعائلات، ولكنه سيراعي الفروق والالتزامات بين الأسر.
أما بريطانيا فقد أعلنت وزارة ماليتها عن ضمانها نسبة 80% من رواتب العاملين، الذين تمنعهم أزمة كورونا من الذهاب إلى أعمالهم، بحد أقصى 2500 جنيه إسترليني في الشهر، وهذا الإجراء يعد جيدا، حيث إنه يضمن لشريحة كبيرة من أصحاب الدخول الضعيفة الحصة الكبرى من دخولهم، هذا بخلاف صور أخرى قدمتها بريطانيا للشركات تتعلق بالحق في الحصول على قروض من البنوك هناك.
مما يجب النظر إليه عند تناول موضوع حماية العمال في ظل أزمة كورونا، أن كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومات لدعم العمال، سواء كان الدعم بشكل مباشر أو غير مباشر، تأتي في إطار ما يسمى بالضرورة أو الأزمة، ولا تنم عن توجه أيديولوجي.
قد يسفر الوضع في ظل أزمة كورونا عن تغيير سياسات الدول فيما بعد الأزمة، ليكون لديها برامج لمواجهة الأزمات، أو يشمل التغيير سياساتها الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام فيما يتعلق بالضرائب المفروضة على القطاع الخاص، أو اشتراكات التأمين التي يتم تحصيلها من العمال، بحيث يكون هناك رصيد آمن، ولفترة طويلة، لضمان عدم تعرض المالية العامة لأعباء مرهقة.
وقد تؤدي الأزمة إلى حراك عمالي فيما بعد، يضمن دور أكبر للعمال في إدارة مثل هذه الأزمات، ويمكنهم من وجود تمويل ذاتي للمنظمات العمالية، يؤمن لهم نسبة من الأجور والرواتب في مثل هذه الأزمات.