بدايات مبكرة
رصيد الصين من الذهب
اليوان اللص
متطلبات وتحديات
تعددت صور المواجهة بين أميركا والصين على الصعيد الاقتصادي بدءا من حرب العملات، ومرورا بمشكلات التجارة، وآخرها سعي الصين لاختراق النظام النقدي العالمي، وساعدها على الخطوة الأخيرة ما أقره صندوق النقد الدولي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2015 بدخول اليوان الصيني كإحدى العملات المكونة لوحدات السحب الخاصة الصادرة عن الصندوق، وتم تفعيل القرار في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وتعد وحدات السحب الخاصة أحد مكونات سلة احتياطيات النقد لدى اقتصاديات الدول المختلفة.
ومؤخرا أعلن عن خطوة سيكون لها ما بعدها في حسابات النظام النقدي العالمي، ليكون اليوان عملة دولية تفرض سيطرتها على واقع الاقتصاد العالمي، وذلك من خلال ما تعتزم الصين القيام به من تسوية الصفقات الآجلة لوارداتها من النفط باليوان المقوم بالذهب، أي أن مصدري النفط إلى الصين بإمكانهم الحصول على عوائد النفط وقت استحقاقها بالذهب إن أرادوا أو اليوان.
وتقدر واردات الصين من النفط بـ 7.6 ملايين برميل يوميا، حيث تعد المستورد الأول للنفط على مستوى العالم، وتمثل الواردات النفطية للصين نحو 60% من استهلاكها من النفط.
"
تسوية الصفقات بالذهب تعد ورقة ضغط من قبل الصين تواجه بها مشروعات الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتحجيم تجارتها، وتؤسس الخطوة أيضا لأن يكون اليوان عملة دولية
"
القراءة الأولى تذهب إلى تحقيق عدة مصالح للدول المصدرة للنفط والتي لها مشكلات مع أميركا ولا تريد أن يكون الدولار وسيطا في تجارتها الخارجية، ولعل أكبر المستفيدين من هذه الخطوة روسيا التي تعاني من فرض عقوبات اقتصادية من قبل أميركا وأوروبا.
وفي الوقت نفسه، فإن الخطوة تعد ورقة ضغط من قبل الصين تواجه بها مشروعات الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتحجيم تجارتها، وتؤسس الخطوة أيضا لأن يكون اليوان عملة دولية في محيط التبادلات الخاصة بالتجارة الدولية وغيرها من المعاملات الاقتصادية الأخرى.
عقب الأزمة المالية العالمية تبنت الصين في اجتماعات مجموعة العشرين الدعوة إلى البحث عن بديل للدولار لتسوية المعاملات الدولية، وهو ما حذرت منه أميركا، خاصة الرئيس جورج بوش الابن لما رآه من تهديد لعرش الدولار.
لم تكتف الصين بهذه الخطوة، ولكنها اتجهت إلى منحى جديد يتمثل في الإعلان عن تسوية المعاملات التجارية البينية لدول جوارها بالعملات المحلية، وهي الدعوة التي لاقت قبولا من قبل روسيا ودول آسيوية أخرى، لتجنب المخاطر التي تتعرض لها الاقتصاديات الدولية نتيجة لتقلبات الدولار وتأثره بتراجع الاقتصاد الأميركي غير المستقر.
كما اتجهت الصين لتخفيف مخاطر تراكم احتياطياتها من النقد الأجنبي بالدولار -والتي بلغت 3.10 تريليونات دولار عام 2016- عبر توسعها في الاستثمارات الخارجية، سواء في آسيا وأفريقيا أو أوروبا وأميركا، لتحول أرصدتها بالدولار إلى أصول مالية تكون أكثر استقرارا، وحتى تخرج من تحت ضغوط السياسات المالية والنقدية الأميركية عبر تذبذب قيمة الدولار أو سعر الفائدة بالسوق الأميركية.
زادت مساهمة الذهب كنسبة من احتياطيات النقد الأجنبي في الصين، فبعد أن كانت حوالي 1.37% عام 2008 وبما يعادل نحو أربعين مليار دولار، ارتفعت عام 2016 إلى نسبة 2.2% وبما يعادل سبعين مليارا.
وقدر وزن الذهب كمكون في احتياطي النقد الأجنبي بنحو 1658 طنا، وهو ما جعل الصين تحتل المرتبة الخامسة على مستوى العالم من حيث رصيد الذهب في احتياطيات النقد الأجنبي.
ويتوقع أن تتجه الصين خلال الفترة القادمة إلى زيادة حصة الذهب في احتياطي النقد الأجنبي لديها، استعدادا لتنفيذ ما أعلنته من سداد استحقاقات النفط الآجلة باليوان أو الذهب.
في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين قبل العالم طرح أميركا للدولار كعملة لها قبول لتسوية التعاملات التجارية والاقتصادية الدولية، لما كان يتمتع به الاقتصاد الأميركي من إمكانيات جعلته يتربع على عرش الاقتصاد العالمي وظل كذلك إلى مطلع التسعينيات، حيث برزت اقتصاديات الدول الصاعدة التي كانت مساهمتها في الاقتصاد العالمي خصما من مساهمة أميركا في الناتج المحلي العالمي.
"
على ما يبدو فإن التاريخ سيعيد نفسه لتمارس الصين نفس اللعبة الأميركية، حيث تلوح لمصدري النفط بجزرة الذهب، وقد تلتزم بذلك لفترة تصل إلى عشرين عاما
"
ورغم بروز اقتصاديات الدول الصاعدة -وعلى رأسها الصين- فإن الاقتصاد الأميركي يحتل المرتبة الأولى عالميا على الصعيد الاقتصادي وإن تراجعت مساهمته في الاقتصاد العالمي من نحو 30% حتى بداية التسعينيات إلى حوالي 20% الآن.
وكانت العملة الأميركية مغطاة بالكامل بالذهب، مما أعطاها قبولا وثقة لدى كافة اقتصاديات العالم وذلك حتى عام 1971، حيث أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون تخلي أميركا عن قاعدة الذهب، وأن سعر الدولار سيكون معتمدا على العرض والطلب، وأن الاحتياطيات الموجودة لدى الدول من الدولار يمكنها شراء السلع والخدمات.
ومن ذلك التاريخ أطلق الاقتصاديون على الدولار اصطلاح "الدولار اللص" لما يقوم به من عمليات سلب لثروات الأمم والشعوب مقابل أن تصدر الحكومة الأميركية ورقا أخضر.
الصين أكبر مستورد للنفط الخام في العالم
وعلى ما يبدو فإن التاريخ سيعيد نفسه لتمارس الصين نفس اللعبة الأميركية، حيث تلوح لمصدري النفط بجزرة الذهب، وقد تلتزم بذلك لفترة تصل إلى عشرين عاما كما فعلت أميركا ثم تتخلى عن قاعدة الذهب، لينضم الورق الأحمر (اليوان) إلى الورق الأخضر في سلب مقدرات العالم الاقتصادية، وتكون الضحية هي الدول النامية التي تنتج المواد الأولية وتستورد السلع الصناعية والتكنولوجية.
وقد لا تكتفي الصين بخطوة الدفع للاستحقاقات في تجارتها الخارجية بالذهب عن استحقاقات النفط الآجلة فقط، فقد تشهد السنوات بل الشهور القادمة سلعا أو تعاملات من قبل الصين تنضم للقائمة حتى تتسع رقعة نفوذ وسيطرة الصين على النظام النقدي العالمي.
لا شك في أن الخطوة التي اتخذتها الصين تجعل منها أول قوة اقتصادية تدير أزمتها مع أميركا عبر خطوات مدروسة فتم قصر الدفع بالذهب على الصفقات الآجلة، وهو ما يسمح للصين بفترات انتقالية لتهيئة مؤسساتها للدفع دون أن يحدث ذلك حالة من الإرباك الذي يضطرها للقيام بشراء ذهب بكميات كبيرة خلال فترات قصيرة، مما يؤدي إلى حدوث عمليات مضاربة كبيرة في سوق الذهب العالمي.
وستساهم هذه الخطوة في كسر احتكار الدولار النظام النقدي العالمي، خاصة أن الخطوة قد تكون في صالح متضررين من السياسات الأميركية مثل روسيا وإيران، وهما دولتان لهما وزن في سوق النفط والغاز الطبيعي، مما يعني هز سيطرة الدولار على عرش تقويم النفط، لتكون هناك عملة أخرى يمكن بواسطتها تقويم أسعار النفط.
وكذلك بدأت الصين بسلعة واحدة، مما يسمح لها بالخروج من الاحتفاظ بالدولار بشكل متدرج حتى لا تنهار قيمة الدولار بشكل كبير وتتضرر الصين التي تمتلك أكبر احتياطي من النقد الأجنبي بالدولار، كما أنها أكبر مستثمر على مستوى العالم في سندات الخزانة الأميركية بنحو 1.1 تريليون دولار.
ومع دخول الصين في التطبيق الفعلي لهذه الخطوة ستكتسب عملتها ثقة العديد من الاقتصاديات العالمية، وسوف تزيد هذه الدول حصة حقوق السحب المقومة باليوان في احتياطياتها وسترتفع قيمة اليوان، وقد تعجل هذه الخطوة بدخول اليوان حلبة التعامل المباشر في الأسواق الدولية، ولكن ذلك سيفرض تحديا على الصين التي تجتهد منذ سنوات في الحفاظ على ارتفاع محدود للغاية في عملتها للحفاظ على حصتها من الصادرات العالمية