كشفت أزمة الطاقة التي عاشتها مصر منذ العام 2008 عن الكثير من صفقات الفساد في هذا القطاع، حيث انكشف الميزان البترولي لمصر في هذا العام، وتحولت مصر إلى مستورد صاف للنفط، وهو العجز الذي استمر في التزايد حتى الآن.
وتشير بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي عن العام المالي 2013/2014 عن وجود عجز بالميزان النفطي يقدر بنحو مليار دولار، رغم حصول مصر على دعم خليجي من شحنات البترول والغاز المجانية خلال العام تقدر بنحو 8 مليارات دولار.
وتولى مجموعة من المعارضين المصريين مواجهة الفساد في قطاع البترول، إبان تولي سامح فهمي وزير البترول في عصر مبارك، ليكشفوا العديد من صفقات الفساد في عقود تصدير الغاز لمجموعة من الدول الأوروبية، أو إسرائيل التي ظلت مصر تصدر لها الغاز بحدود 1.25 دولار للمليون وحدة حرارية، حتى قيام ثورة 25 يناير، في حين تستورد مصر السولار والبنزين بسعر الغاز المصدر لأوروبا وإسرائيل.
إلا أن صفقة الغاز التي أعلنت عنها مصر بمؤتمر شرم الشيخ مع شركة بي بي وقدرت قيمتها بنحو 12 مليار دولار أوضحت أن مسلسل الفساد بقطاع البترول المصري لا يزال مستمرا، وبصورة أكثر فجاجة.
رغم أن عقد الشركة البريطانية انتهى في العام 2003، بالمواقع التي تم التعاقد عليها شمال الإسكندرية في المياه العميقة، ظلت الشركة بمواقعها، وأخذت تتفاوض مع الحكومات المصرية المتعاقبة على حصتها في الإنتاج، وعلى سعر بيع حصتها لمصر، حتى وصلت الشركة البريطانية في الصفقة الأخيرة مع حكومة محلب لأن تستحوذ على نسبة 100% من الإنتاج، رغم أنه سبق للشركة أن حصلت على نسبة 20% من حصة الإنتاج في عقود سابقة لها مع مصر، كما توصلت الشركة البريطانية إلى أن تبيع إجمالي الإنتاج لمصر بواقع 4 دولارات لكل لمليون وحدة حرارية بريطانية.
"
في ضوء ضعف الموقف المصري، أخذت شركة بي بي على مدار الفترة الماضية في زيادة قيمة تكلفة الحفر من 2.5 مليار دولار إلى 12 مليار دولار، بما يساعدها على الاستيلاء على كامل الإنتاج، وإلغاء نصيب الدولة المصرية
"
هذا فضلا عن إعفاء ضريبي تتمتع به الشركة البريطانية لجميع تعاملات الصفقة وعلى مدار عشرين عاما، وهو ما لا يعد مقبولا في ظل تنازل الحكومة المصرية عن حصتها في الإنتاج.
إن المنطق يقتضي ألا تفرط الحكومة المصرية في جميع حقوقها، فإذا كانت أزمتها المالية وحاجتها للغاز قد دفعتاها للتوقيع على الصفقة، فلا أقل من أن تضمن إحدى الميزتين، وأن تتمسك بأعلاهما قيمة، وهي دون شك حصة من الإنتاج لا تقل عن الثلثين.
وفي ضوء ضعف الموقف المصري، أخذت الشركة على مدار الفترة الماضية في زيادة قيمة تكلفة الحفر من 2.5 مليار دولار إلى 12 مليار دولار، بما يساعدها على الاستيلاء على كامل الإنتاج، وإلغاء نصيب الدولة المصرية، والتي كانت لا تقل في معظم الاتفاقيات عن 60%.
كما ستقوم الحكومة المصرية بشراء المتكثفات البترولية التي تنتجها المواقع المتعاقد عليها، والتي يقدرها الخبراء بنحو 5 مليارات دولار، وهو المبلغ الذي ينظر إليه البعض على أنه التكلفة الحقيقية للحفر، وبذلك سيكون ثمن الغاز المبيع لمصر من قبل الشركة البريطانية على مدار 20 عاما بمثابة أرباح صافية، تحول للخارج، وتحظى بكامل الإعفاء الضريبي.
وشأن كل المشروعات التي أعلن عنها بمؤتمر شرم الشيخ، أسندت صفقة الغاز للشركة البريطانية بالأمر المباشر، وهو ما يخالف القوانين المصرية، وينم عن شبهة فساد، تقتضي أن تقوم الأجهزة الرقابية بمصر وعلى رأسها حاليا الجهاز المركزي للمحاسبات ببيان هذه المخالفة القانونية ومحاسبة القائمين عليها.
وحالة الفساد البادية في اتفاقية الغاز بين مصر والشركة البريطانية لا تعد الأولى، ولكنها حلقة في مسلسل اطلع المجتمع المصري على جزء منه، وما خفي كان أعظم.
ففي نهاية الثمانينيات تبنت صحيفة الشعب المعارضة حملتها ضد وزير البترول آنذاك عبد الهادي قنديل، وأشارت الصحيفة إلى تأسيسه لشركة في دولة أوروبية، كانت تشترى البترول المصري بسعر رخيص، ثم تعيد بيعه في السوق لشركات أخرى، وتمت التغطية على هذه الممارسات الفاسدة بإقالة الوزير في العام 1991.
وأقيل الوزير دون محاسبة، وهو ما أكد توقعات الصحيفة في ذلك الوقت بأن الوزير يمارس الفساد لصالح شركاء آخرين من المسؤولين الكبار بالدولة. كما أن الفساد في نهاية عصر مبارك لم يواجه إلا بعد ثورة 25 يناير، حيث صدرت أحكام قاسية على وزير البترول سامح فهمي، ولم يُبرأ إلا بعد الانقلاب، وهو ما يعني أن الفساد بقطاع البترول هو فساد دولة.
وقد وصف وزير بترول إحدى الدول العربية عقود النفط والغاز المصرية بأنها عقود سمسرة وليست عقود بيع للنفط والغاز، نظرا للأثمان الزهيدة التي بيع بها الغاز المصري للدول الأوروبية والأردن وإسرائيل في العقد الأول من الألفية الثالثة.
ومن اللافت أن العمل بقطاع البترول في مصر يحظى به أبناء كبار المسؤولين والضباط السابقون بالجيش والشرطة، نظرا لما يتمتع به القطاع من أجور عالية ومزايا مادية أخرى، ويعد لذلك أحد الأبواب المهمة التي تدلف منها الشركات الأجنبية للفساد في قطاع البترول المصري.
تم إبرام الصفقة في وضع تعاني فيه مصر من عجز شديد في المواد البترولية والغاز، فضلا عن أزمة تمويلية طاحنة، لم تمكنها من سداد مستحقات شركات النفط الأجنبية، مما أعطى الشركة البريطانية الفرصة في أن تفرض شروطها، وكما هو معروف فإن الاتفاقيات تصاغ لصالح الأقوى. إلا أن الدولة المصرية مهما كان ضعف موقفها يجب عليها أن تحافظ على حصتها في ضوء تجاربها السابقة سواء مع الشركة البريطانية أو غيرها من الشركات.
إن موقف الانقلاب العسكري الباحث عن أضواء سياسية دفعه لتوقيع هذه الصفقة، بغض النظر عن تبعاتها الاقتصادية السلبية، التي تتمثل في إهدار الموارد النفطية لمصر، من أجل أن يخرج مؤتمر شرم الشيخ بأرقام كبيرة كاستثمارات أجنبية.
"
تجرؤ النظام المصري على توقيع الاتفاق مع بي بي يعكس غياب دور الأجهزة الرقابية من جهة والأجهزة الفنية من جهة أخرى
"
لكن الثمن هذه المرة عالي التكلفة في وقت تعاني فيه مصر من عجز الموازنة العامة رغم تطبيقها لتقليص دعم الطاقة منذ يوليو/تموز 2014، والفرصة الآن لصالح الموازنة في ظل هبوط أسعار النفط بالسوق العالمية.
تجرؤ النظام المصري على توقيع هذا الاتفاق يعكس غياب دور الأجهزة الرقابية من جهة، والأجهزة الفنية من جهة أخرى.
وإذا كان الدستور قد أعطى رئيس الجمهورية الحق في توقيع الاتفاقيات الدولية في غياب انعقاد البرلمان، فإن هذا الحق مقيد بإعادة عرض هذه الاتفاقيات على البرلمان عند انعقاده.
وفي ظل الظروف الحالية من تأجيل لانعقاد البرلمان، فإن الشركة ستكون في وضع قانوني أفضل، حيث ستبدأ العمل، حتى وإن اعترض البرلمان على بنود هذه الاتفاقية فيما بعد فإن الأمر سيكون قد خرج عن مرحلة التراجع.
فهناك تكاليف أنفقت، وثمة شروط جزائية دون شك تنظم العلاقة في حالة تراجع أحد الطرفين، ومصر بوضعها الحالي ماليا ونفطيا لا تملك أن تواجه هذه الشروط الجزائية.
كما تشير الصفقة إلى أن النظام المصري الحالي لا يفكر في حل مشكلات البلاد المزمنة بما يعكس احتياجاته في الأجل الطويل، فالإحصاءات الحكومية المصرية تبين أن استهلاك البلاد يزداد بنسبة 3% في مجال الطاقة، فضلا عن طموحات معلنة تخص زيادة معدل النمو الاقتصادي، وهو ما يستلزم ارتفاع معدلات استهلاك الطاقة بمصر حال تحقيقها هذه المعدلات.
ولكن تحليل سلوك الحكومة المصرية الحالية يتضح منه أنها لم تأخذ هذه المتغيرات المهمة بمعادلة الطاقة في الاعتبار.