ثمة مستقبل شديد الضبابية على صعيد الاقتصاد العالمي، وبخاصة في ظل حرب تجارية واقتصادية لاحت علاماتها في الأفق، وهو ما دعا كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي لأن تصرح في مطلع مايو الماضي، بأن هناك غيوما قاتمة تلوح في أفق الاقتصاد العالمي، من الحمائية التجارية وارتفاع سعر الفائدة وارتفاع المديونية الخارجية للدول النامية. (الحمائية هى سياسة تجارية تستهدف حماية المنتج الوطني من المنافسة الأجنبية)
هذه التحديات من شأنها أن تفرض وجودا تنيسقًا، إن لم يكن تكاملًا بين التجمعات الإقليمية، ومن بينها منطقة الخليج، التي شرعت منذ عقود في بناء تكتلها الإقليمي من خلال مجلس التعاون الخليجي، والذي انجز خطوات لا بأس بها على صعيد التعاون الاقتصادي.
إلا أن الحصار الذي فرضته ثلاث دول خليجية (السعودية، والإمارات والبحرين) ومصر على دولة قطر، منذ يونيو 2017، أدى إلى نتائج سلبية، من الصعوبة بمكان أن تستطيع الدول الخليجية في ظلها أن تكون جسدًا واحدًا في مواجهة ما تفرضه المشكلات والقضايا الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد العالمي.
فأزمة الحمائية التجارية على الصعيد العالمي تشهد تطورًا يوميًأ، والجميع يتأهب للسيناريوهات المختلفة، ويحسب الآثار السلبية والإيجابية، وكيفية تفادي الآثار السلبية، وتحول الأزمة إلى فرصة، ولكن الساحة الخليجية في ظل استمرار أزمة حصار قطر، غاب عنها هذا الأداء، وكان بإمكانها أن تبحث عن فرصتها فيما يتعلق بزيادة حصة الصادرات من البتروكيماويات التي تمتلك فيها ميزة نسبية، وبخاصة أن هذه الصناعة دخلت في معترك الصراع التجاري بين الصين وأمريكا.
وعلى صعيد آخر، فإن الفرصة البديلة لما أدى إليه الحصار من تكلفة مالية، كان من شأنها أن تقوى المراكز المالية لدول الخليج، بعد أزمة انهيار أسعار النفط، التي أدت إلى عجز في الموازنات العامة لدول الخليج جميعًا، واعتمادها سياسة التوسع في المديونية الخارجية.
فصفقات شراء الأسلحة لم تتوقف من طرفي أزمة حصار قطر، وهي بمبالغ تفوق مئات مليارات الدولارات، وكانت استراتيجية تنوع اقتصاديات الخليج أولى بهذا الإنفاق، حتى لا تتعرض اقتصاديات الخليج، لتقلبات اقتصاديات النفط مرة أخرى
وحتى في ظل تحسن أسعار النفط خلال مايو الماضي، وحتى الآن، لن تحقق دول الخليج استفادة مالية ملموسة من التدفقات النفطية الجديدة، بسبب استمرار الصراع، الذي يستنزف الموارد المالية، ويضع المنطقة تحت تصنيف “منطقة غير مستقرة” مما يقلل فرصها في جذب الاستثمارات الأجنبية، فضلًا عن الحفاظ على الاستثمارات المحلية.
الواقع يعكس أزمات اقتصادية تعيشها بعض دول الحصار، ومنها مصر والبحرين، حيث تعكس الأرقام ارتفاع مديونياتها الخارجية بشكل كبير، وبخاصة خلال العام الماضي، حيث بلغت مديونية مصر الخارجية 82 مليار دولار بنهاية ديسمبر 2017، فضلًا عما يزيد عن 10 مليارات دولار أخرى تم اقتراضها خلال أبريل ومايو 2018، واستمرار أزمتها التمويلية. وثمة تحذيرات أشار إليها صندوق النقد الدولي بخصوص الوضع المالي المتراجع بالبحرين، حيث ارتفاع الدين العام بالبحيرن إلى نسبة 97% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولم تك السعودية أسعد حظًا، فقد تجاوز دينها العام 100 مليار دولار، ولا يزال اقتصادها يشهد تراجعًا على عدة صعد، منها معدل النمو الذي حقق معدلا سالبا
بلغ 1.7% بنهاية 2017، فضلًا عن حالة ركود، وتسريح للعمالة الوافدة، وحالة عدم الثقة لدى مجتمع الأعمال، بعد الزج بكبار رجال الأعمال رهن الاعتقال بحجة مكافحة الفساد، والحصول على 100 مليار دولار من ثرواتهم، مما أثار حالة من الترقب والحذر من الخطوات القادمة، التي قد تطال شريحة أكبر من أصحاب رؤوس الأموال.
وفي خطوة تعكس حقيقة الوضع المالي والاقتصادي بالإمارات، سمحت دولة الإمارات مؤخرًا للأجانب بنسبة التملك تصل إلى 100%، وذلك في إطار تقديم المزيد من الامتيازات لجذب الاستثمارات الأجنبية، حيث لازال النفط يمثل عماد الاقتصاد الإماراتي، شأنه شأن باقي الدول الخليجية.
بعد مرور عام على حصار دولة قطر، حرى بدول الحصار أن تراجع نفسها، بعد فشلها في تحقيق ما يمكن اعتباره نصرًا سياسيًا أو اقتصاديًا، يبرهن على صحة قرار الحصار، فحصار قطر أدى إلى إضعاف أوضاع دول الخليج ككل على الصعيد السياسي والاقتصادي، حيث فتحت دول الحصار على نفسها أكثر من جبهة للصراع، سواء بالحرب في اليمن، أو بحصار قطر، أو بتصعيد لهجة العداء لإيران.
فبلا شك أنه على مستوى الأفراد والمؤسسات، لازالت الأسر الخليجية تدفع ثمنًا باهظًا، أضر بالاستثمارات البينية، وكذلك التبادل التجاري، فضلًا عن الأواصر الاجتماعية. فمؤخرًا اتخذت قطر قرارات تتعلق بتعليق وارداتها من دول الحصار، بعد مضي عام، وهو ما سيؤثر على بعض دول الحصار بشكل مباشر مثل مصر، ويتوقع أن تتطور مثل هذه القرارات لتنال مجالات اقتصادية أخرى، إذا ما استمرت الأزمة على ما هي عليه.
عادة ما تمر العلاقات بين الدول بأزمات، ولكن لابد من قراءة هذه الأحداث في ضوء المصالح والمفاسد، وعلى الصعيد الاقتصادي، لم تؤد أزمة حصار قطر إلى تحقيق مصالح اقتصادية لدول الحصار، أو وجود تغير على خريطة مجلس التعاون الخليجي، لميزان القوى الاقتصادية، حيث تتساوى الامكانيات وأوراق الضغط.
ومن هنا وجب توفير الجهود، ووقف إهدار الموارد والثروات، وادخارها لتقوية الوضع الاقتصادي لدول الخليج، في ظل تطورات تشهدها المنطقة، تستهدف هدم كافة القوى، وإبراز قوى الكيان الصهيوني، ليكون المهيمن على مقدرات المنطقة.