ثمة رؤيتان يمكن النظر من خلالهما إلى وجود أي تكتل اقتصادي، الأولى: الرؤية التفاؤلية التي تنظر إلى المصالح القائمة والمنتظرة من وجود هذا التكتل، وهو ما يدفعها للتخطيط والتنسيق لإنفاذه، والرؤية الثانية: تلك المتعلقة بالرؤية التشاؤمية التي لا تنظر إلا إلى التحديات والمشكلات.
وعلى الصعيد السياسي، من المهم أن تتوفر لقيام أي تكتل اقتصادي إرادة سياسية، وإن كان لا يشترط أن تتوفر هذه الإرادة عند كل الأطراف، ولكنها تأتي بعد تحقيق خطوات ناجحة، وإنزال المصالح على أرض الواقع، وهو ما تحقق بشكل إيجابي في حالة الاتحاد الأوروبي، وتحقق عكسه في فشل تجربة مشروع التكامل الاقتصادي العربي.
وقد شهدت المنطقة العربية -بخلاف المشروع الكبير للتكامل الاقتصادي العربي- تجارب تكاملية على نطاق جغرافي أضيق، ولكن جميعها لم تصل إلى حالة نجاح كاملة، ومن بين هذه التجارة تجربة مجلس التعاون الخليجي وتجربة مجلس التعاون المغاربي وتجربة مجلس التعاون العربي.
وبجوار هذه التجارب العربية ثمة مشروعات كبرى توجد على الأرض بمستويات مختلفة من التفعيل، من بينها مشروع الأورومتوسطية، ومشروع الشرق أوسطية الذي يستهدف دمج الكيان الصهيوني في المنطقة، والمشروع التركي، والمشروع الإيراني.
ومؤخرا، دعا العراق إلى إبرام تكتل اقتصادي يضم معه كلا من تركيا وإيران، وأتى ذلك خلال انعقاد منتدى الأعمال العراقي التركي للاستثمار والمقاولات الذي شهدته مدينة إسطنبول في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وعلى الرغم من أن الدعوة أتت على لسان المتحدث باسم وزارة التجارة العراقية محمد حنون فإن ذلك قد يصادف رغبة كبيرة لدى كل من تركيا وإيران، فثمة عوامل كثيرة تسهل قيام هذا التكتل، مثل الوحدة الجغرافية بين الدول الثلاث، ووجود طرق برية، وتعاملات تجارية واقتصادية قائمة بالفعل، وروابط ثقافية وحضارية ممتدة عبر الزمن.
كما أن هناك عوائق ليست سهلة، منها حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في العراق، ومشكلات تركيا وإيران مع الأكراد في العراق.
وفي الطرف الآخر، تعاني إيران من عقوبات اقتصادية دولية وإن كانت في طريقها إلى الزوال، ومع ذلك فإن لديها تعاملات اقتصادية وتجارية وثقافية وحضارية أيضا مع كل من تركيا والعراق.
ونلقي الضوء عبر السطور الآتية على المقومات التجارية والاقتصادية للدول الثلاث، وكذلك إمكانية النجاح، والتحديات التي يمكن أن توجه التجربة، وذلك من خلال طرح عدة أسئلة والإجابة عنها.
تبين الأرقام الخاصة بقاعدة بيانات البنك الدولي أن الناتج المحلي للدول الثلاث في عام 2020 بلغ ما يزيد على تريليون دولار، وتأتي تركيا في المرتبة الأولى بنحو 720 مليار دولار، ثم إيران بنحو 191 مليار دولار، ثم العراق بـ167 مليار دولار، مع الأخذ في الاعتبار أن انخفاض الناتج المحلي لإيراني يأتي بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، فقد كان ناتجها قبل العقوبات في عام 2017 نحو 445 مليار دولار، كما أثر انخفاض قيمة الليرة التركية على قيمة الناتج المحلي لتركيا المقوم بالدولار.
وعلى صعيد عدد السكان وفق بيانات عام 2020، يصل عدد السكان في الدول الثلاث نحو 208 ملايين نسمة، وتأتي تركيا في المرتبة الأولى التي يبلغ عدد سكانها 84.3 مليون نسمة، ثم إيران ويبلغ عدد سكانها 83.9 مليون نسمة، أما العراق فقد بلغ عدد سكانه 40.2 مليون نسمة.
أما من حيث مساحة الأراضي فقد بلغ مجموع مساحة أراضي الدول الثلاث 2.8 مليون كيلومتر مربع، تأتي إيران في المقدمة بمساحة 1.6 مليون كيلومتر مربع، لتبلغ مساحتها أزيد من مجموعة مساحتي تركيا والعراق، فتركيا تبلغ مساحتها 769 ألف كيلو مترمربع، ثم العراق بمساحة 434 ألف كيلومتر مربع.
ويعد العراق وإيران من الدول المصدرة للنفط، وهما عضوان في منظمة الأوبك، ولديهما إنتاج واحتياطي من النفط والغاز الطبيعي، مما يجعلهما إضافة إلى أي تكتل اقتصادي، بل قد يكونان ورقة ضغط في إدارة بعض الملفات التي يديرها التكتل، ويعتبران أيضا مصدرين مهمين للنفط والغاز الطبيعي لتركيا.
وفي الوقت نفسه، تمثل تركيا مصدرا مهما للمياه، حيث تعتبر دولة منبع لأنهار تجري في العراق وإيران، وبلا شك فإن الإنتاج الزراعي والغذائي في تركيا يعد مصدرا مهما لكل من العراق وإيران، كما تعد تركيا ذات مكون صناعي مهم، وفي طريقها لإنتاج التكنولوجيا في مجالات مختلفة.
أما بشأن حجم التبادل التجاري بين الدول الثلاث فتبين الإحصاءات أن التبادل التجاري بين إيران وتركيا في مارس/آذار 2021 على أساس سنوي بلغ 6.8 مليارات دولار، وأن ذلك انعكس في شكل فائض لصالح تركيا بما يصل إلى ملياري دولار، ولكن هذه البيانات تعكس تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، حيث تراجع التبادل التجاري بينهما، فالطبيعي أن صادرات الغاز والنفط الإيرانية إلى تركيا كانت تصل إلى نحو 9 مليارات دولار قبل العقوبات.
أما عن قيمة التبادل التجاري بين تركيا والعراق فقد بلغت في 2020 نحو 17.3 مليار دولار، وذلك حسب أرقام معهد الإحصاء التركي، وسجل التبادل التجاري بين البلدين فائضا تجاريا لصالح تركيا بلغ 941 مليون دولار، إلا أنه مع تحسن أسعار النفط في النصف الثاني من عام 2021 قد تفضي التبادلات التجارية في نهاية العام بفائض لصالح العراق.
أما عن التبادل التجاري بين إيران والعراق فقد بلغ في مارس/آذار 2020 على أساس سنوي 13 مليار دولار، وبما يحقق فائضا لصالح إيران بنحو 5 مليارات دولار.
يذكر أن إيران تعد المصدر الوحيد لتصدير الكهرباء للعراق، ويتم بينهما تعامل يتم استثناؤه في هذا المجال من العقوبات المفروضة على طهران.
إذا ما اتخذت خطوات عملية لتفعيل هذا التكتل فثمة عدة فوائد يمكن أن تعود على الجميع بشرط وجود استقرار سياسي وأمني بشكل أفضل في العراق، حيث يمكن لكل من تركيا وإيران إمداد العراق بإقامة صناعات مشتركة تحسن هيكل الناتج المحلي للعراق.
بل يمكن في حال تطور صور التكامل بين دول التكتل أن يكون العراق في وضع أفضل من حيث تنوع اقتصاده ليكون النفط أحد الموارد، ويمكن تطوير قطاع الزراعة هناك بعد الوصول إلى حصص من المياه تدفع بها تركيا للعراق.
لن يكون العراق المستفيد الوحيد، ولكن تركيا ستكون أمامها فرصة أفضل لتوسع علاقاتها الإقليمية، مما يزيد وضعها الإقليمي في إطار جيوسياسي، كما أن تجارتها البينية مع كل من إيران والعراق ستكون في وضع أفضل.
ومما يمكنه الوصول إلى نتاج أفضل لصالح التكتل المنتظر أن تُرفع العقوبات عن إيران، مما يمكن تركيا من المساهمة بشكل كبير في تطوير البنية الأساسية فيها، وهو ما ينعكس بشكل جيد على الشركات التركية المتخصصة في هذا المجال، من إنشاء الطرق ومحطات الكهرباء، وكذلك إقامة العديد من الصناعات التي يمكن أن تأتي في إطار الشراكة بين الدولتين.
ثمة مجموعة من التطورات يمكن أن تحسن العلاقات بين دول التكتل عبر البوابة الاقتصادية وإن كانت هناك بعض العقبات، مثل أن إيران ليست عضوة في منظمة التجارة العالمية، كما أن تركيا تلتزم ببعض الاتفاقيات الخاصة بالجمارك والتجارة مع الاتحاد الأوروبي.
وقد تكون الدول الثلاث مؤهلة لتتجاوز مرحلة منطقة التجارة الحرة في الأجل القصير، وتنتقل إلى مرحلة الاتحاد الجمركي، وهو ما سيستغرق فترة لتأهيل كل من إيران والعراق لتتواكب نظمهما مع تركيا، الأكثر اندماجا في الاقتصاد العالمي.
إذا ما كتب لهذا التكتل أن يدخل حيز التنفيذ فسوف يستثير التجمعات الأخرى في المنطقة، خاصة مجلس التعاون الخليجي الذي اهتز موقفه بشكل كبير منذ أزمة حصار قطر في يونيو/حزيران 2017.
كما يمكن اعتبار التكتل المنتظر مواجها لتيار التطبيع مع إسرائيل، والذي انضمت إليه 4 دول عربية في 2020 هي الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
ويمكن توظيف التكتل في إطار إيجابي، بحيث يستوعب الدول العربية الراغبة في الانضمام إليه، وفي هذه الحالة سيعد تحقيقا لرغبة العديد من الخبراء بضرورة تحقيق اندماج بين الدول العربية وإيران وتركيا، مما يحسن وضع الإقليم في مجالات مواجهة التكتلات الإقليمية الأخرى على مستوى العالم.
على أجندة العلاقات بين الدول التي يضمها التكتل المنتظر مجموعة من القضايا التي تحتاج إلى حسم، على رأسها: قضية المياه، ومطالبة كل من إيران والعراق بحصص أفضل مما هي عليه الآن من المياه من تركيا باعتبارها دولة منبع.
ومطلوب كذلك تجاوز القضايا المتعلقة بالجمارك بما يتفق وقواعد منظمة التجارة، مع مراعاة بعض الخصوصية لوضع العراق لفترة انتقالية يمكن الاتفاق عليها، وذلك بسبب تراجع البنى الصناعية والزراعية فيه، وقد يكون من المناسب كذلك تطوير التعاملات المالية والمصرفية بما يتناسب مع قواعد التمويل الدولي وإن كانت إيران سوف تعاني في هذا الأمر بسبب العقوبات المفروضة عليها الآن، وحتى يعد توصلها إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي قريبا فسيكون مطلوبا إمهالها بعض الوقت، لطبيعة المرحلة الانتقالية التي سيتطلبها ملف رفع العقوبات.
ومن الضروري أيضا بذل جهود حقيقية لتطوير شبكة النقل البري بين دول التكتل، مما يؤدي إلى سهولة التدفق السلعي، وكذلك اختصار الوقت المتعلق بالشحن وباقي الإجراءات، وكذلك تسهيل إجراءات الاستثمارات البينية لتلك الدول.
لا يمكن أن نغفل الجانبين السياسي والأمني السائدين في المنطقة كذلك لدى دول التكتل كونهما يمثلان تحديا لقيام هذا التكتل، فمن ناحية تعمل كل من إيران وتركيا منذ سنوات على مشروعين إقليميين، وهو ما يتطلب مراعاة مصالح المشروعين وإزالة ما بينهما من تعارض، وهو أمر صعب تحقيقه في الأجلين المتوسط والطويل.
كما أن حالة الاستقرار السياسي والأمني في العراق على ما يبدو أنها عصية في الأجل القصير، وهو ما يؤدي إلى غياب الالتزام من قبل الحكومة العراقية للوفاء بالتزاماتها، كما أن المشكلات التي تثار من قبل أكراد العراق تجاه كل من تركيا وإيران ستؤدي إلى النظر مليا في الالتزام بأي اتفاقيات تجارية واقتصادية قد تسبب خسائر للأطراف المختلفة.