غينيا تعتبر ثاني أكبر منتج لخام البوكسيت على مستوى العالم بعد أستراليا، والذي يعد المادة الرئيسية في صناعة الألمنيوم
من بين المقولات التي رُوج لها خلال العقدين الماضيين أن بلدان أفريقيا الفقيرة في طريقها للاستقرار السياسي والأمني عبر المسار الديمقراطي، لكن الواقع خلال السنوات الماضية شهد أكثر من انقلاب عسكري بدول أفريقيا، مثل تشاد، ومالي، ومؤخرا غينيا.
وكانت أنظار العالم تتجه باهتمام إلى الانقلاب العسكري في غينيا الذي وقع في 5 سبتمبر/أيلول الجاري، وقد يكون هذا الاهتمام في جزء قليل منه بدواعٍ إنسانية وبواعث ديمقراطية، لكن الاهتمام الأكبر -الذي أشارت إليه وسائل الإعلام- مصير إنتاج الألمنيوم في العالم، ومدى تأثيراته على الصناعات المختلفة في مناطق العالم.
وغينيا هي ثاني أكبر منتج لخام البوكسيت على مستوى العالم بعد أستراليا، حيث تقدم نحو 25% من البوكسيت المنتج في العالم، والذي يعد المادة الرئيسية في صناعة الألمنيوم، وإن كان خام البوكسيت هو الأشهر من بين الموارد الطبيعية المهمة في غينيا إلا أنه ليس الوحيد، فهناك خام الذهب الذي صنفت فيه غينيا في المرتبة الـ18 على مستوى العالم في عام 2020 حسب تصنيف مجلس الذهب العالمي، بحجم إنتاج بلغ 56.9 طنا، وكذلك تحظى غينيا بسلع زراعية وغذائية مهمة، مثل البن والأسماك والأرز.
قفز الناتج المحلي في غينيا من 8.6 مليارات دولار في عام 2016 إلى 15.6 مليار دولار في عام 2020، وكان معدل نمو الناتج في 2020 بحدود 5.6%، كما بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 1194 دولارا في 2020، وهو وضع أفضل بكثير مما كان عليه في 2016 عند 732 دولارا، حيث يبلغ عدد السكان 13.3 مليون نسمة، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
وتبلغ الصادرات السلعية للبلاد في عام 2020 -وفق البنك الدولي- 4.9 مليارات دولار، فيما بلغت الواردات السلعية في نفس العام نحو 3.25 مليارات دولار، ويرجع الفائض في الميزان التجاري للبلاد إلى اعتماد الصادرات السلعية هناك على المعادن بشكل رئيسي، حيث تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن صادرات المعادن تمثل نسبة 25.8% في عام 2016، وكانت هذه النسبة تصل إلى 51.5% في عام 2008.
وتعتبر أهم الصادرات السلعية للبلاد البوكسيت والذهب والألماس والأرز والبن والأسماك، فيما تمثل أهم الواردات السلعية البترول والعدد والآلات والمنسوجات والحبوب والمواد الغذائية.
وإضافة إلى المعادن التي تتمتع فيها غينيا بوفرة لديها مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية التي تمثل 59% من إجمالي مساحة الأراضي البالغة 245 ألف كيلومتر مربع، كما تتوفر لغينيا كميات هائلة من المياه العذبة، إذ يقدر نصيب الفرد منها بـ18 ألف متر مكعب، ومع ذلك فإن نسب الفقر هناك عالية، فقد قدرت بـ36.1% في عام 2012، وتشير بعض التقديرات إلى أنها وصلت الآن إلى 50% بسبب معدلات الفساد المرتفعة، حيث تحتل المرتبة 137 من بين 180 دولة شملها مؤشر الفساد في عام 2020.
عقب الإعلان عن الانقلاب العسكري في غينيا تأثرت بورصة لندن بشكل واضح، حيث ارتفعت أسعار الألمنيوم بنسبة 1.6%، ليصل سعر الطن إلى 2771 دولارا، وهو السعر الذي وصف بأنه الأقرب لأعلى سعر وصل له الخام منذ عام 2011 عند 2782 دولارا للطن.
وثمة مخاوف بشأن إمدادات السوق الدولية بالمعادن المهمة التي تستخرج من الأراضي الغينية، لكن قائد الانقلاب العسكري هناك مامادي دومبويا بعث رسالة طمأنة للخارج، من حيث استمرار المناجم في إنتاج المعادن الخاصة بالبلاد، والتي تصدر للخارج، كما أعلن قائد الانقلاب العسكري أنه تم إعادة فتح الحدود البرية والجوية للبلاد، بعد يوم واحد فقط من الانقلاب، وهو ما يضمن استمرار حركة التجارة.
كما لم تحمل وسائل الإعلام المختلفة أي رد فعل في مقاومة الانقلاب العسكري في غينيا، والمعلوم أن الدول الكبرى لها مصالح ضخمة في غينيا، حيث تعمل ما يزيد على 20 شركة أجنبية في استخراج المعادن هناك، وتعد الصين صاحبة المصلحة الكبرى هناك، بسبب الاتفاق الذي وقع مع الرئيس المنقلب عليه ألفا كوندي عام 2017، وبموجب هذا الاتفاق تقدم الصين 20 مليار دولار لإنشاء مشروعات البنية الأساسية التي تحتاجها البلاد مقابل امتيازات تحصل عليها بكين في صناعة استخراج البوكسيت.
وإذا ما دانت الأمور هناك للانقلاب العسكري فيتوقع أن تعود كافة معدلات الأداء المرتبطة بالمعادن الغينية إلى طبيعتها، فالحكومة التي سيشكلها الانقلاب العسكري لا يمكنها الاستغناء عن الإيرادات الحكومية من استخراج المعادن، كما أن الدول الكبرى -ومنها الصين- وكذلك الشركات متعددة الجنسيات من صالحها أن تستمر غينيا كرافد مهم للمواد الأولية التي تمد صناعات عدة في أكثر من دولة باحتياجاتها.
ولعل المجتمع الدولي -وفي القلب منه الدول ذات المصالح الاقتصادية في غينيا- لن يعنيه وضع الديمقراطية أو الحالة السياسية ولا حتى الوضع الاقتصادي المتردي للشعب الغيني، ولكن ما سيشغل هذه الفئات استمرار تدفق الموارد الطبيعية الأولية بشكل يضمن مصالح الشركات واستمرار الأرباح، ولن تعترض هذه الدول والشركات الكبرى على استمرار الانقلاب العسكري هناك طالما لم يعطل مصالحها.
تصنف غينيا في مؤشر التنمية البشرية العالمي الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لعام 2020 ضمن الدول ذات التنمية المنخفضة، وتحتل المرتبة 178 من بين 189 دولة شملها المؤشر في هذا العام، وهو ما يعني أن غنى هذا البلد بهذه الثروات المتعددة وذات الاستخدامات الضرورية في السوق العالمية لم يؤت ثماره على مستوى المواطنين، وذلك بسبب سوء الإدارة السياسية وغياب مقومات المجتمع الديمقراطي الحر.
فما حدث في غينيا تكرر في الماضي القريب في دولتين مهمتين هما تشاد ومالي، ومع ذلك لم يتغير شيء من قبل رد فعل المجتمع الدولي لعودة المسار الديمقراطي بهذه البلاد، فالعقلية الاستعمارية لم تتغير وإن لم تلجأ إلى القوة الخشنة، ولكنها نظرية المنفعة التي تحكم العقلية الرأسمالية التي تتحكم في مقدرات الاقتصاد العالمي منذ نحو ما يزيد على 4 عقود.
إن التحديات الاقتصادية والاجتماعية في غينيا -التي تنتظر الإدارة الجديدة للانقلاب العسكري- تتطلب أن يتم القضاء على الفساد أولا بشكل كبير، وأن يتم توزيع الثروة داخل البلاد بشيء من العدالة التي تضمن حياة كريمة، لانتشال نحو 50% من أبناء الشعب هناك من براثن الفقر.
كما أن متطلبات التنمية تقتضي إعادة النظر في عقود البلاد مع الشركات الأجنبية العاملة في مجال استخراج المعادن لكي تكون هناك شراكة حقيقية تضمن نصيبا عادلا للاقتصاد الغيني من ثروته، ولن يتحقق ذلك إلا إذا اشترطت الحكومة الغينية تصنيعا داخليا لثرواتها المعدنية، بحيث يكون نصيب البلاد من القيمة المضافة لتلك الثروات عاليا، وبذلك يمكن أن تتضاعف موارد البلاد المالية، كما ستسهم في تطوير الكوادر البشرية لديها، ويمكن التأسيس لتوطين التكنولوجيا بالبلاد.
لكن يبقى هذا في إطار التحليل النظري، فيما الواقع سيعكس نجاح حكومة الانقلاب العسكري أو فشلها في تحقيق هذه الأهداف، ويبقى السؤال الأخير المهم هو: متى تعيش الشعوب الأفريقية في دولة الإنسان؟