منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في أواخر عام 2008، والعالم يعيش تداعياتها، من خلال نمو اقتصادي يعكس حالة من التعافي الهش، أو أزمة مديونية خانقة تعصف باقتصاديات أوربا، وتحمل بين طياتها تهديدات جادة لوجود الاتحاد الأوربي، ومصير غير واضح للعملة الدولية –الدولار- الذي فقد الكثير من المصداقية في ظل تداعي الاقتصاد الأميركي الذي يعيش حالة من التراجع على المستويين العالمي والمحلي.
وفي ظل مناخ يسوده عدم اليقين بشأن الاقتصاد العالمي، فإن سيناريوهات عدة تطرح نفسها، بعضها يحمل بين طياته إعادة خريطة القوى الاقتصادية العالمية، وميلاد نظام اقتصادي عالمي جديد، وبعضها يرى أن ما يحدث هو أداء طبيعي للاقتصاد الرأسمالي، الذي تعد الأزمات والتقلبات الاقتصادية جزءًا من بنيانه.
وثمة تساؤلات جوهرية تطرح نفسها، وهي: إلى متى ستستمر حالة الضبابية بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي؟ وهل تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي ضربت العالم عام 2008 ولا نزال نعيش ارتداداتها هي آخر المطاف أم أن الأسوأ قادم؟ ولكي نجيب على هذه التساؤلات نتناول بالتحليل المحاور الآتية:
حقق الاقتصاد العالمي معدلاً للنمو بلغ 5% في نهاية عام 2010، وهو ما أعطى انطباعًا إيجابيًا بشأن المستقبل لدى البعض، لكن تقديرات صندوق النقد الدولي تذهب إلى أن معدلات النمو في عام 2011 ستكون في حدود أقل من تقديرات عام 2010 نظرًا لما شهده النصف الثاني من عام 2011 من تراجع في معدلات أداء النمو العالمي، ويقدر صندوق النقد معدلاً لنمو الاقتصاد العالمي في نهاية 2012 بنحو 4%، ويُفسَّر تراجع معدل نمو الناتج العالمي باستمرار العديد من المشكلات الجوهرية في بنية العديد من البلدان المتقدمة، وطريقة التعامل معها، سواء في أوربا أو أميركا، فكلاهما يعاني من مشكلات مالية ضخمة، وفي نفس الوقت هناك تراجع في معدلات النمو للنشاط الإنتاجي وارتفاع معدلات البطالة. كما أن المعدلات المرتفعة للناتج العالمي في عام 2010 لم تكن متوازنة؛ ففي الوقت الذي بلغت فيه نحو 2.5% لدى الدول المتقدمة، ارتفعت هذه المعدلات إلى نحو 7.5% في المتوسط لدى الدول الصاعدة(1). وتضع الظروف الاقتصادية الحالية صانع السياسة في كل من أوربا وأميركا في موقف صعب من خلال ضعف موقف القطاع المالي بهما وحاجته للدعم من قبل الحكومات، التي تعاني هي الأخرى من مشكلات حادة في جدارتها المالية وارتفاع حجم مديونياتها التي تفجرت مؤخرًا، أو حاجة القطاع الإنتاجي إلى العون لتحريك الطلب الداخلي والمساهمة في زيادة الصادرات لسد العجز في الموازين التجارية، وتخفيف حدة البطالة التي تزيد منذ حدوث الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وفي ظل هذا السجال الصعب في كل من أميركا وأوربا يُتوقع أن يتراجع الناتج العالمي في عام 2012، وأن تكون هناك دائرة مفرغة من عجز مالي، فضعف إنتاجي، فتراجع للنمو، فزيادة المديونية، فارتفاع في معدلات البطالة.
تتجلي أزمة المديونية الأوربية في أظهر صورها في حالة اليونان، التي تعرِّض مستقبل الاتحاد الأوربي للخطر، ولا يتوقف الأمر فقط على ديون اليونان، ولكن تبعتها دول أخرى مثل البرتغال وإيرلندا وإيطاليا وأيسلندا وغيرها. وقد بلغ الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في اليونان 153%، وفي إيطاليا 131%، وفي فرنسا 92%، وفي ألمانيا 80%،وفي البرتغال 75%، وفي إسبانيا 72%. ومنذ الإعلان عن أزمة المديونية في اليونان تفجر الخلاف داخل الاتحاد الأوربي حول طريقة معالجة أزمة الديون المتفاقمة في بعض الدول والمرتفعة بشكل عام في كل دول الاتحاد، فبعض الدول الداعمة ترفض أن يتحمل دافعو الضرائب بها ثمن خروج الدول المدينة من أزمتها، بينما تدعو بعض الدول لتضافر جهود دول الاتحاد الأوربي لإخراج الدول المدينة من عثرتها(2)، ومن هنا تشكل صندوق الإنقاذ الأوربي في أكتوبر/تشرين الأول 2010، والذي وافقت على المشاركة فيه ألمانيا أواخر سبتمبر/أيلول 2011(3)، إلا أن جهود الصندوق لا زالت دون المقدرة على معالجة الأزمة؛ حيث لم يتوفر له سوى 250 مليار يورو. إلا أن الأزمة لن تفلح معها الإجراءات التقشفية في الدول الأوربية أو بعض إجراءات الدعم المالي من بعض الدول، ولكن الأمر يتوقف على إسقاط جزء كبير من هذه المديونية، ومواجهة الفساد في الدول المدينة، ووجود دور حاسم للدولة في مراقبة القطاع المالي وأداء القطاع الخاص.
تدهور أداء العديد من المؤشرات الاقتصادية الكلية لدى أميركا بعد الأزمة المالية العالمية، وبخاصة تلك المتعلقة بمعدلات الدين العام الأميركي -الذي فاق نسبة 100% من ناتجها المحلي الإجمالي؛ حيث وصل الدين العام 14.6 تريليون دولار بينما الناتج المحلي الإجمالي لأميركا لا يتجاوز 14.3 تريليون دولار(4)- حيث أخذ العديد من الدول في إعادة حساباتها في الاحتفاظ بالدولار كعملة للاحتياطي النقدي، أو اعتبار الدولار كعملة دولية قوية ومقبولة لتسوية المعاملات التجارية. وهو ما دعا الصين لطرح قضية الدولار كعملة وحيدة للتسوية الدولية في اجتماعات مجموعة العشرين عقب الأزمة المالية العالمية(5)، وإن كان ذلك وُوجِه برفض شديد من قبل أميركا، لكن الواقع شهد تحركات صينية لإصدار سندات بعملتها المحلية على الصعيد الدولي وإن كانت بكميات قليلة، كما أنها لجأت إلى تسوية بعض تعاملاتها التجارية بعملتها المحلية "اليوان" في محيط جيرانها من تجمع الآسيان، ونفس الخطوة اتخذتها تركيا في نطاق ضيق بتعاملاتها مع بعض دول الجوار. وتبقى قضية الدولار مطروحة للنقاش في ظل سيناريوهات متعددة(6)، منها: صعود اليورو كبديل للدولار، ولكن هذا سوف يحمِّل الاتحاد الأوربي تبعات اقتصادية كبيرة، لا تسعى أوربا لتحملها في ظل ظروفها الاقتصادية السيئة في الأجل المتوسط على الأقل، والسيناريو الثاني هو صعود العملة الصينية كبديل للدولار، ولكن هذا الطرح يتطلب مزيدًا من الوقت أمام الصين لتتصدر المشهد الاقتصادي عالميًا، والتوقعات تشير إلى احتمال حدوث ذلك في عام 2035، كما أن انهيار الدولار في الأجل القصير ليس في صالح الصين التي تمتلك أكبر احتياطي من الدولار بنحو 3.1 تريليون دولار، أما السيناريو الثالث فهو وجود عملة تعتمد على حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، ولكن الأوضاع المالية العالمية الحالية لا تسمح بهذا الإجراء، كما أن العملة الدولية تحتاج بالأساس إلى حكومة تقف وراءها، لتمثل ثقلاً اقتصاديًّا وسياسيًّا لقبولها، وهو ما يفتقده صندوق النقد الدولي. وإلى أن يقوى أحد هذه السيناريوهات ليخرج إلى أرض الواقع سيظل الدولار عملة دولية مثيرة للقلق في ظل الأجواء الاقتصادية الأميركية والعالمية المضطربة.
بعد وقوع الأزمة المالية العالمية، أخذت مجموعة العشرين على عاتقها الخروج بالاقتصاد العالمي إلى رحابة النمو والتعافي، ولكن من خلال قراءة نتائج اجتماعات المجموعة يتبين تضارب المصالح بين أعضائها؛ فأميركا لديها تصور بأن الحل يكمن في زيادة الإنفاق الحكومي لإنعاش الطلب، بينما أوربا ترى أن الإجراءات التقشفية هي الناجعة للتغلب على أزمة المديونية في موازنات دولها. وعلى صعيد مشاركة الدول الصاعدة التي ظهر دورها بوضوح في اجتماعات مجموعة العشرين، فقد رأت أن التوجهات الأوربية-الأميركية تقف ضد مصالحها وبخاصة في تصورها لحركة التجارة العالمية؛ حيث ترى الدول الصاعدة أن تلتزم أوربا وأميركا بقواعد حرية التجارة التي نادت بها طول الفترة الماضية، وفي نفس الوقت تطالب أوربا وأميركا الدول الصاعدة ألا تركز على أسواقها لترويج صادراتها، وأن تعمل الدول الصاعدة على تنشيط الطلب المحلي لديها لتصريف منتجاتها، وبخاصة أن الدول الصاعدة لديها كتلة بشرية كبيرة يمكنها الاستهلاك بمعدلات تعوض النقص في صادراتها لأوربا وأميركا.
حتى الآن لم يَلُحْ في الأفق ما يدل على استطاعة اقتصاديات القوى الكبرى تطويق التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية. وإذا ما استمر الوضع الحالي فسوف يؤدي ذلك إلى تغيير في خريطة القوى الاقتصادية عالميًا، هذا من جانب، ومن جانب آخر فسوف تعاني اقتصاديات القوى الكبرى من العديد من المشكلات الاقتصادية ذات الطابع السياسي والاجتماعي.
فعلى صعيد التغيير في خريطة القوى الاقتصادية عالميًا، فإن قوة الدول الصاعدة سوف تكون الأقوى، وبخاصة الصين، التي أصبحت تحتل المرتبة الثانية من حيث الصادرات على مستوى العالم، واحتفاظها بأكبر رصيد من احتياطي النقد الأجنبي المقوم بالدولار كما سبق القول. وبطبيعة الحال فإن الدول الأوربية وأميركا يحتاجان بشكل كبير إلى مصادر للتمويل للخروج من كبوتهما، ولا يتوفر هذا التمويل إلا من خلال مصدرين رئيسيين، هما: الصين والدول الخليجية النفطية(7)، كما تستطيع دول صاعدة أخرى المساعدة في هذا الجانب ولكن بشكل ثانوي. ويؤخذ في الاعتبار عند الإقدام على هذه الخطوة أن المال العربي بلا مشروع سياسي أو اقتصادي، بينما الصين والدول الصاعدة الأخرى لديها مشروعها الاقتصاد المعلن ولن تُقدِم على ذلك دون أن تحصل على ثمن يتمثل في توطيد مكانتها على الصعيد الاقتصادي العالمي، سواء في إعادة تشكيل المؤسسات المالية العالمية، أو في صناعة القرار الاقتصادي العالمي. ويُتوَقَّع في هذه الحالة أن تكون الصين في صدارة المشهد الاقتصادي العالمي على حساب الدور الأميركي، الذي لا يتوقع له الاختفاء التام، ولكنه سوف ينزوي في المرتبة الثانية التي يشاركه فيها الاتحاد الأوربي واليابان.
وبخصوص المشكلات الاقتصادية التي سوف تتعرض لها القوى الكبرى من جرَّاء عدم مقدرتها على مقاومة تداعيات الأزمة المالية العالمية فإنها تتمثل في الآتي:
يتوقع استمرار وجود الخلل المالي في اقتصاديات القوى الكبرى، بسبب اضطرابات أسواق الأوراق المالية بها، وكذلك جهازها المصرفي، وذلك في ظل انخفاض التصنيفات الائتمانية لبعض الدول ومنها أميركا، أو لانخفاض التصنيف الائتماني للعديد من البنوك في أوربا وأميركا بل وإفلاس بعض البنوك في كل من أميركا وأوربا. وتشير البيانات إلى زيادة عجز الموازنة العامة بأميركا حتى وصل إلى 6.5%، و12.8% و10.3 %، خلال السنوات 2008 و2009 و2010، أما منطقة اليورو فكان عجز الموازنة بها لنفس الفترة هو 2.1% و6.4% و6.1%(8).
وصل العجز التجاري لأميركا إلى 706.7 مليار دولار في يوليو/تموز 2011، بينما وصل في منطقة اليورو إلى 33.4 مليار دولار(9). ومن المسلَّم به أن أميركا تعيش مشكلة مزمنة في العجز بميزانها التجاري، وبخاصة مع الصين، إلا أن كلاًّ من الاتحاد الأوربي وأميركا يخوضان مفاوضات عميقة مع الصين منذ سنوات من أجل العمل على خفض عجزهما التجاري، وتركز المفاوضات على مطالبة الصين برفع قيمة عملتها المحلية "اليوان" وهو ما ترفضه الصين وتعتبره شأنًا سياديًا، وتطالب أميركا والاتحاد الأوربي بحل مشكلاتهما الاقتصادية الداخلية(10).
تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى بلوغ عدد العاطلين على مستوى العالم نحو 205 مليون عاطل بزيادة قدرها 30 مليون عاطل منذ عام 2008(11)، إلا أن ارتفاع معدلات البطالة في الدول المتقدمة هو الأشد، وبخاصة بين الشباب؛ ففي أميركا بلغ معدل البطالة لشهر سبتمبر/أيلول 2011 نحو 9.1%، بينما وصلت معدلات البطالة 9.5% في دول الاتحاد الأوربي خلال أغسطس/آب 2011، وفي باقي دول منطقة اليورو وصل معدل البطالة إلى 17%(12).
بلغ التضخم في منطقة اليورو في سبتمبر/أيلول 2011 نحو 2.6 % بعد أن كان 1.6% خلال عام 2010، بينما وصل في أميركا في أغسطس/آب 2011 نحو 3.6%، بعد أن كان 1.1% خلال عام 2010(13)، وهي معدلات مرتفعة في كل من أوربا وأميركا مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل الأزمة المالية العالمية حيث معدل التضخم لا يتجاوز 1%.
فشل العالم العربي على مدار عقود في أن يكون كيانًا اقتصاديًا إقليميًا، يسعى لتحقيق مصالحه، من خلال العلاقات الاقتصادية البينية، أو من خلال تعامله مع باقي الكيانات الإقليمية في المحيط العالمي، وذلك على الرغم من الظروف المواتية للعالم العربي من خلال امتلاكه لمشروع للتكامل الاقتصادي العربي منذ ستينيات القرن العشرين، أو استحواذه على بعض الموارد الاقتصادية المؤثرة في المحيط الاقتصادي العالمي، وعلى رأسها النفط، أو الزيادة السكانية التي أدت إلى اعتبار المنطقة العربية سوقًا يُعتد به في عالم الاقتصاد.
وفي خضم الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي امتدت منذ أواخر عام 2008، لم نلحظ وجود كيان عربي ُولد من رحم الأزمة يسعى لإعادة البناء الاقتصادي العربي ليعظِّم من قيم التكامل الاقتصادي، أو ليوجد رؤية موحدة تعكس وجود برامج لمواجهة الآثار السلبية على الاقتصاديات العربية، ومن هنا نستطيع القول بأنه من الصعوبة بمكان أن ندعي أن يكون للعالم العربي دور في صناعة المستقبل الاقتصادي العالمي. ولا أدل على ذلك من نتائج أعمال القمة الاقتصادية العربية الأولى التي عُقدت في الكويت مطلع عام 2009؛ حيث لم تسفر عن نتائج ملموسة على أرض الواقع سوى في الدعوة لإقامة صندوق لدعم المشروعات الصغيرة برأس مال 2 مليار دولار، وأُنجز القدر المطلوب من رأس المال بمعدل 50% منذ سنة، ولم يباشر الصندوق عمله بعد. إلا أن تداعيات الأزمة المالية العالمية على العالم العربي فرضت مجموعة من التحديات، منها:
تعرضت الاستثمارات العربية الخارجية التي تُقدَّر بنحو 2 تريليون دولار لمجموعة من المخاطر، بعد وقوع الأزمة المالية العالمية، وكان النصيب الأوفر من هذه المخاطر للاستثمارات غير المباشرة في أسواق الأوراق المالية، وتلك المستثمرة في قطاع العقارات. وقد قدرت خسائر الاستثمارات العربية بنحو 400 مليار دولار. كما أن خفض معدلات الفائدة بالدول الأوربية وأميركا يُعد أيضًا أحد المخاطر التي تحيط بالاستثمارات العربية بالخارج. ومع أن بعض هذا الاستثمارات قد توجه إلى الصين ودول جنوب شرق آسيا ونزرًا يسيرًا إلى دول عربية، إلا أن الجزء الأكبر لا يزال في أوربا وأميركا، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في توطين هذه الاستثمارات في المنطقة العربية وأماكن أخرى أكثر أمنًا من حيث المخاطر الاقتصادية(14).
لا يزال العديد من الدول العربية يربط عملته المحلية بالدولار، وهو ما يستتبع ربط سياساته النقدية بالسياسة النقدية الأميركية، مما حمل الدول العربية بالعديد من الخسائر نتيجة تراجع أداء الاقتصاد الأميركي، ولا أدل على ذلك من انخفاض قيمة الاحتياطيات النقدية لدى الدول العربية المقومة بالدولار، وكذلك انخفاض العائد على استثمارات هذا العائد في سندات الخزانة الأميركية. وكان من أهم مخاطر هذه السياسة ارتفاع معدلات التضخم بدول الخليج بشكل ملحوظ منذ وقوع الأزمة المالية في عام 2008. ولذلك كان الواجب على الدول العربية منذ مطلع الألفية الثالثة أن تقوم بفك الارتباط بين عملتها والدولار، والسعي لتكوين سلة عملات قوية بديلة، وأيضًا العودة للاستحواذ على الذهب كمكون رئيسي في الاحتياطيات النقدية(15).
على الرغم من أن الشهور التالية للأزمة المالية عام 2009 ومنتصف عام 2009 قد شهدت تراجعًا ملحوظًا في أسعار السلع الغذائية، إلا أن عام 2010 شهد عودة ارتفاع أسعار السلع الغذائية مرة أخرى؛ مما عرَّض الدول العربية مجددًا لارتفاع فاتورة الغذاء التي تعاني منها منذ فترة طويلة؛ حيث بلغت فاتورة الواردات العربية من الغذاء في عام 2008 نحو 41.7 مليار دولار(16). والمخرج من هذه الأزمة مدون منذ سنوات طويلة في دفاتر التكامل الاقتصادي العربي، بالاستفادة من الأيدي العاملة في الدول ذات الكثافة السكانية العالية، وأموال النفط الخليجية، والأراضي الزراعية الخصبة في السودان وبعض الدول العربية الأخرى.
ولعل الدرس القديم الجديد الذي يجب أن تعمل به الدول العربية لمواجهة التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية وغيرها، هو العودة الجادة لتفعيل مشروع التكامل الاقتصادي العربي، والذي يتوافر له الكثير من المقومات ما عدا الإرادة السياسية.
بقدر ما مثلت الأزمة المالية العالمية من فرص للدول الصاعدة، بقدر ما فرضت عليها من التحديات، لقد استطاعت الدول الصاعدة وبخاصة الصين والهند والبرازيل تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي، كما حصلت على نصيب أكبر من الاستثمارات الأجنبية، في الوقت الذي كان فيه أداء دول أوربا وأميركا متراجعًا على تلك المؤشرات.
ولكن يُلاحَظ أن أداء الدول الصاعدة قد اتسم بمجموعة من السلبيات على الصعيد التنموي، منها: أن العائد من زيادة معدلات النمو في هذه الدول كان للأغنياء منه النصيب الأوفر. صحيح أن معدلات الفقر قد تراجعت بهذه الدول، ولكن على الجانب الآخر فإن الأغنياء كانوا أوفر حظًا من الفقراء في الاستفادة من ثمار هذا النمو. والأمر الثاني هو أن بعض هذه البلدان –كالصين- لا يزال يمارس الرأسمالية المستبدة التي لا تُوجِد أي رابط بين التنمية والديمقراطية، بينما تظهر صورة أخرى في بلدان مثل الهند والبرازيل وهي الرأسمالية المدارة من قبل الدولة، والتي مورست بشكل قوي من خلال استثمارات الصناديق السيادية. أما التحدي الثالث فهو اعتماد تجربة الدول الصاعدة على نفس آليات التجربة الأوربية والأميركية من حيث تمويل التنمية بالدَّيْن؛ حيث تستقبل هذا الدول مبالغ طائلة من الاستثمارات الأجنبية بنوعيها المباشرة وغير المباشرة؛ مما يجعل من المتوقَّع لها أن تشهد نشاطًا اقتصاديًا محمومًا، يتطلب الكثير من سياسات التعقيم لاقتصادياتها ضد التداعيات السلبية لهذه الآلية(17). ولعل هذا ما دعا بعض الدول إلى فرض ضرائب على الأموال الساخنة في سوق الأوراق المالية بها، حتى تجبر هذه الأموال على البقاء أطول فترة ممكنة، والحد من ممارسة هذه الأموال لنشاط المضاربة. ومما سيساعد الدول الصاعدة على تأكيد دورها على خريطة القوى الاقتصادية العالمية خلال الفترة المقبلة تلك الخطوات التنسيقية فيما بينها؛ حيث عُقد تجمعٌ للدول الصاعدة ضم خمس دول، هي: (الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا، وجنوب إفريقيا)، وقد عقدت مجموعة من الاجتماعات كان آخرها في إبريل/نيسان 2011 بالصين، ومن أهم الاتفاقيات التي نوقشت في هذا الاجتماع، اتفاقية تخص نظام الإنتربنك، والذي يتيح لهذه الدول أن تتداول فيما بينها القروض والمنح بعملاتها المحلية كبديل للدولار. والجدير بالذكر أن هذا التجمع للدول الصاعدة يضم 42% من سكان العالم، ويحقق 18% من حجم الناتج المحلي العالمي، ويسيطر على 15% من التجارة السلعية للعالم(18). ويتوقع أن ترجح كفة الدول الصاعدة في أية مفاوضات اقتصادية عالمية في المستقبل، لأن هذه الدول سوف تجذب إليها الدول النامية في وجه الدول الأوربية وأميركا في حالة اختلاف وجهات النظر.
صحيح أن الواقع الجديد للاقتصاد العالمي قد فرض وجود دور للدول الصاعدة في تشكيل الخريطة الاقتصادية الجديدة، ومن مظاهر ذلك أن الدول المتقدمة لم تقصر التفكير في الخروج من الأزمة المالية العالمية على نفسها ولكنها أفسحت المجال للدول الصاعدة ومن بينها الصين والهند والبرازيل، وكذلك بعض الدول النامية ذات الفوائض المالية كالمملكة العربية السعودية، وهو سلوك مختلف عن ذي قبل حيث كانت مجموعة السبع الصناعية المتقدمة تنفرد لتقرر ما تشاء، وما على الدول النامية سوى التنفيذ.
وعلى الدول الصاعدة ألا تكرر أخطاء الدول الغربية وأميركا في ظل صعود معدلات النمو بها، كما أن عليها أن تعالج مثالب توزيع ثمار النمو بين سكانها، وأن تمتلك قدرًا كبيرًا من التعاون فيما بينها يساعد على تحقيق الاستقرار في أداء الاقتصاد العالمي، وأن تأخذ مزيدًا من الاحتياطات تجاه الاعتماد بنسبة كبيرة على التصدير لأوربا وأميركا. كما أنه على الدول الصاعدة أن تقيم علاقة متوازنة مع الدول النامية والأقل نموًا في إطار من التجارة العادلة وتحقيق المصالح المشتركة، وألا تنظر إليها على أنها مجرد مصدر للمواد الأولية الرخيصة كما فعلت أميركا والدول الغربية من قبل.
في الختام فإن مستقبل الأزمة المالية العالمية يظل مرهونًا بطريقة التعامل مع تداعياتها والقضاء على أسبابها، فإما أن تظل وجهات النظر الأوربية مختلفة بشأن علاج الاختلالات المالية وأزمة المديونية وهو ما يعرِّض مستقبل الاتحاد الأوربي لخطر التفكك، ونفس الأمر ينطبق على النهج الأميركي الذي لم يعد يأبه بحجم ديونه وتراجع أدائه الاقتصادي، والعيش على حساب الآخرين، والمتوقع أن يتراجع موقع أميركا كقائد للنظام الاقتصادي العالمي، وأن يشهد الدولار مستقبلاً مجهولاً بشأن كونه عملة دولية. وسوف يكون العالم عرضة للعديد من الأزمة المتتالية.
وإما أن تستحضر أوربا تجاربها التاريخية في التعامل مع الأزمات، وتقوم بمشاركة أميركا بالسيطرة على أسواق الأوراق المالية، وإلغاء التجارة في الديون، وتطهير محافظ البنوك من الديون الرديئة، وتوجيه استثماراتها لأنشطة الاقتصاد الحقيقي. وليس هذا فحسب بل يمكنها مراجعة قواعد النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي أنتجت أدواته هذه الدوامة من المشكلات والدخول في أزمة مالية واقتصادية واجتماعية مفتوحة، سواء فيما يتعلق بدور الدولة في النشاط الاقتصادي، أو القواعد المنظمة للتجارة الدولية، أو طبيعة التمويل على المستويين العام والخاص، تمهيدا للخروج من آلية سعر الفائدة والتمويل بالدَّيْن إلى آلية المشاركة. وبذلك تستعيد أوربا وأميركا توازنهما الاقتصادي ولكن في ضوء خريطة جديدة للقوى الاقتصادية العالمية تفسح الطريق للدول الصاعدة لدور يتناسب وطموحاتها.
ويؤمل أن تفرز الأزمة المالية العالمية الحالية نظامًا اقتصاديًا عالميًا جديدًا، يراعي طبيعة التغيرات في موازين القوى ويعمل على إيجاد منظومة جديدة تراعي مصالح الدول المتقدمة والصاعدة والنامية دون جور لصالح فئة على أخرى. فلم تعد المطالبة بتغيير قواعد النظام الرأسمالي، والبحث عن نظام اقتصادي جديد، قاصرة على الدول النامية، بل هو مطلب متكرر من قبل قادة ومسؤولين أوربيين.