بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تونس، لاتزال حالة الاستقطاب السياسي على أشدها هناك، وسط أداء اقتصادي غير ناجع للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية على الرغم من تحسن مؤشرات اقتصادية معينة، مثل انتعاش قطاع السياحة وانخفاض التضخم.
ووسط هذه الأجواء أجرت إحدى وسائل الإعلام التونسية مؤخرا حوارا مع جيروم فاشي (الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي هناك) جاء فيه أن المحادثات القادمة بين الصندوق والحكومة المنتظرة سوف تواجه أمورا مهمة لكي يتم صرف باقي القرض المقرر من الصندوق لتونس، شريطة إنجاز أمرين مهمين، وهما تخفيض مخصصات الأجور للعاملين بالحكومة، وكذلك تخفيض دعم الوقود.
وكانت تونس قد حصلت على قرض بقيمة 2.9 مليار دولار، ويتبقى منه شريحتان بقيمة إجمالية 1.2 مليار. وفي حالة عدم التوصل لاتفاق بين الحكومة المنتظرة والصندوق فقط توجه تونس صعوبة شديدة خلال الفترة القادمة في الحصول على احتياجاتها التمويلية، فالاتفاق مع الصندوق هو البوابة المعتمدة لدى أسواق التمويل الدولية.
وهو الأمر الذي دعا مروان العباسي محافظ البنك المركزي التونسي للتصريح بأن بلاده عضو في صندوق النقد الدولي، وأن ما تتحصل عليه من قروض نظير هذه العضوية، وأن الحكومة القادمة سوف تدخل في برنامج جديد مع صندوق النقد، وأن تونس أنجزت العديد من الإصلاحات المتفق عليها، وأن الصندوق لا يفرض شيئا على تونس.
وحسب بيانات المالية التونسية عن الميزانية الخاصة لعام 2020، فإن الدين العام بلغت قيمته من حيث أصل الدين والفوائد 98.7 مليار دينار (34.8 مليار دولار) وبما يعادل 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
واللافت أن فوائد الديون بتونس تشكل نسبة كبيرة من إجمالي الدين العام، فقد بلغت 32.5 مليار دينار، في حين أصل الدين 66.2 مليار دينار. وهو ما يعني أن تكلفة الديون خلال فترة السنوات التسع الماضية كانت عالية، فهي تمثل نحو ثلث إجمالي الدين العام.
وتمثل الديون الخارجية النسبة الأكبر من الدين العام، حيث بلغت وفق تقديرات المالية التونسية نحو 69.9 مليار دينار (شاملة أصل الدين + الفوائد) في حين الديون المحلية بحدود 28.8 مليار دينار (شاملة أصل الدين + الفوائد).
حسبما جاء في تصريحات الممثل المقيم لصندوق النقد في تونس، حول الملفين الرئيسيين المختلف عليهما، وهما ملف أجور العاملين بالحكومة ودعم الوقود، تبين من خلال بيانات المالية التونسية لميزانية 2020، أن مخصصات بند الأجور ستكون بحدود 19 مليار دينار وبما يمثل نسبة 40% من إجمالي الإنفاق العام، وبزيادة قدرها 1.9 مليار دينار عن مخصصات عام 2019، أما مخصصات دعم الوقود فقد تبين أنها قدرت بنحو 1.8 مليار دينار.
وفي حالة مورست ضغوط من قبل صندوق النقد على الحكومة الجديدة لتخفيض مخصصات كل من رواتب العاملين بالحكومة أو دعم المحروقات، فقد يؤدي ذلك إلى اضطرابات في الشارع التونسي، وقد لا يساعد هذا الأمر الحكومة الجديدة على مواصلة عملها، أو استقالتها في أقرب فرصة.
فالمطلوب من بعثة صندوق النقد استيعاب الظرف السياسي الذي تمر به تونس، وبخاصة ما يتعلق بالجوانب التمويلية، فلا زال أداء الاقتصاد هشا، ويعتمد بشكل كبير على الموارد الريعية، مثل السياحة والنفط.
ولعل البيان الصحفي الأخير لبعثة صندوق النقد، والمنشور على موقعه حول نتائج الزيارة التي تمت لتونس منتصف يوليو/تموز 2019، يبين هذا الأمر توصله لنتيجة ألا يزيد معدل النمو الاقتصادي على 2% عام 2019، بسبب الأداء المخيب للآمال بقطاع الصناعة.
ومن الطبيعي أن تذهب الحكومة لزيادة رواتب العاملين بالدولة لتتواكب مع معدلات التضخم، التي تشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء أنها بلغت 6.8% خلال 11 شهرا الأولى من 2019 مقارنة بنفس الفترة من 2018.
أما مخصصات دعم الوقود فهي طبيعية في ظل عدم انطلاق الاقتصاد على الرغم من التزامه باتفاقيات مع صندوق النقد منذ عام 2011، أي أنه على مدار نحو تسع سنوات، لم تنجح السياسات الاقتصادية التي يمليها الصندوق على الحكومات التونسية في إنعاش الاقتصاد لتكون لديه القدرة على التخلص من الديون وأعبائها، أو وجود ناتج محلي يعتمد على القيمة المضافة.
فآخر احصاءات منشورة عن الفقر في تونس، تبين أن نسبة 15.2% من الشعب تحت خط الفقر، وأن 24% ممن هم تحت خط الفقر من الأطفال. وبالتالي من الطبيعي أن تكون مخصصات مثل دعم الوقود إحدى صور الحماية الاجتماعية لهذه الشريحة من المجتمع.
ولا أدل على فشل سياسات الصندوق الاقتصادية في تونس من أن أعباء الدين العام تصل بميزانية 2020 إلى 11.6 مليار دينار، وبما يمثل 25% تقريبا من إجمالي الإنفاق العام، في حين الإنفاق الاستثماري الحكومي لا يتعدى 3.7 مليارات دينار، أي أن الإنفاق على أعباء الدين يمثل ثلاثة أضعاف مخصصات الإنفاق على الاستثمار الحكومي.
لا يخفى على أحد الدور السياسي المصاحب لسياسات وممارسات صندوق النقد في مختلف الدول التي مارس عمله فيها، وفي الحالة التونسية أمسك الصندوق بزمام رقبة صانع السياسة المالية والاقتصادية، من خلال توريط البلاد في الديون.
وخلال عام 2020، أو فور تشكيل حكومة جديدة، ستكون مطالب صندوق النقد البند الأول على أجندة الحكومة، والتي ستجد نفسها بين فكي رحى، إما تقبل شروط الصندوق وتصطدم بالشارع عبر تخفيض مخصصات الأجور الحكومية ودعم الوقود.
أو تبقى على مخصصات ميزانية 2020، وتصطدم بصندوق النقد وتواجه تعثر الحصول على التمويل اللازم لتمويل ميزانية 2020، وتحقيق طموحها بتحقيق معدل نمو اقتصادي عند 2.7%.
ولا يستبعد أن يمارس صندوق النقد ضغوطه في اتجاهات معينة للوصول إلى حكومة تمثل توجها سياسيا بعينه، ولكن بشكل غير مباشر، عبر الضغوط على الحكومات التي أتت نتيجة إفراز سياسي حر وديمقراطي، ولن يكون ذلك إلا من خلال إفشال الحكومة المنتظرة، وتعثرها في تسيير الأوضاع الاقتصادية، وبخاصة الاحتياجات الضرورية منها، المتعلقة بالوقود وتوفير السلع الأساسية.
وثمة خيار آخر يحتاج قراءة بعيدة عن سلوك صندوق النقد، وهو أن يتفهم خبراء صندوق النقد ومجلسه التنفيذي وضع الاقتصاد التونسي، كما تفهموا من قبل، وفي حالة نادرة الحدوث مع اليونان حتى خرجت من عثراتها المتعددة والتي وصلت إلى العجز عن سداد التزامات لصندوق النقد، وكان من الواجب أن يعلن الصندوق معها إفلاس اليونان، ولكن الصندوق لم يفعل.
الأيام القادمة، ستكشف لنا سلوك الأطراف المتعددة في المعادلة التونسية المعقدة، فهل سيتفهم الصندوق الوضع في هذا البلد؟ هل ستنجح الحكومة في إقناع الشارع بمطالب الصندوق وتنفيذ سياساته دون خروج المظاهرات والاضطرابات؟
أم ستنجح الحكومة في إقناع الصندوق بوضع الاقتصاد والوصول لبرنامج جديد يحافظ على استقرارها السياسي، والأمر الصعب في هذا المضمار هو تفهم القوى السياسية المتصارعة لحقيقة الوضع الاقتصادي واعتباره ملفا يقتضي التفهم الوطني، وعدم اللجوء للمزايدة السياسية على حقيقة الوضع الاقتصادي.