الوضع الذي تمر به الصين على الصعيد الاقتصادي يجعلنا نفكر في مصير هذا العملاق الاقتصادي، وما يترتب على أزماته الاقتصادية التي يمر بها، ومن سيستفيد من تلك الأزمات ومن سيتضرر
منذ عام 2008 والصين تشهد تراجعات في أدائها الاقتصادي، وإن كانت لا تزال ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعد أميركا، فضلا عن قيادتها لمشروع نظام اقتصادي عالمي جديد ينهي سيطرة أميركا والدولار.
ومنذ مدة لم تعد الأخبار الاقتصادية القادمة من الصين تنطلق من السلع الرخيصة، أو معدلات النمو المرتفعة، بل تأتي الريح بما لا تشتهي السفن، فالصين تعاني أزمة في الطاقة أثرت على توفير الكهرباء للمصانع والمنازل، مما دعا إلى تقليص الكهرباء في المنازل، وكذلك تقليص الطاقة للصناعات المستهلكة للطاقة بكثافة مثل الصلب والإسمنت والأسمدة وغيرها.
بل إن بعض الصناعات التي كانت تعتمد على مستلزمات إنتاج أو عدد وآلات قادمة من الصين أصبحت في وضع صعب يجعلها تعيد حساباتها من أكثر من جهة؛ أولها مسألة انتظام الإنتاج، والثانية البحث عن مصادر أخرى، والثالثة ارتفاع تكاليف الإنتاج.
الجدير بالذكر أن الصادرات السلعية الصينية بلغت في نهاية 2020 نحو 2.5 تريليون دولار، بما يعادل 14.2% من إجمالي الصادرات السلعية العالمية التي بلغت 17.6 تريليون دولار، في حين بلغت وارداتها السلعية في العام نفسه 2.05 تريليون دولار، بما يعادل نسبة 11.5% من إجمالي الواردات السلعية العالمية التي بلغت 17.8 تريليون دولار، وذلك وفقا لأرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
كما أن أزمة أكبر شركة عقارات في العالم "إيفرغراند" تمثل أحد التهديدات المنتظرة للنظام المالي العالمي، فقد أدت أخبار تراجع وضعها المالي وأزمة السيولة بها إلى تراجعات في أسواق المال الدولية.
والوضع الذي تمر به الصين على الصعيد الاقتصادي يجعلنا نفكر في مصير هذا العملاق الاقتصادي، وما يترتب على أزماته الاقتصادية التي يمر بها، ومن سيستفيد من تلك الأزمات ومن سيتضرر.
قبل أزمة جائحة كورونا كانت الصين تعاني من أزمة مديونية في شركاتها المحلية، وكذلك من ارتفاع معدلات تلوث البيئة، وكانت التوقعات تذهب إلى أن أزمة مكبوتة داخل الاقتصاد الصيني من شأنها أن تفجر الوضع المالي على الصعيد المحلي، ولكن المعالجات الصينية، من خلال احتياطياتها من النقط الأجنبي التي تزيد على 3.4 تريليونات دولار، كانت تسمح لها بنوع من السيطرة على الأزمة، ومما ساعدها على السيطرة على أزمة مديونية الشركات المحلية سيطرة الحكومة على الجهاز المصرفي سيطرة كاملة.
ولكن مع حلول أزمة كورونا، باتت مشكلة عدم الشفافية لا تخص الصين وحدها، بل كل العالم أضحى بحاجة إلى مزيد من المعلومات عن هذا الفيروس لمواجهته، فقد أدى إلى إغلاق تام للاقتصاد العالمي استمر بضعة أشهر، ثم تأتي أزمة أكبر شركة عقارية في الصين "إيفرغراند" يبلغ رأس مالها نحو 300 مليار دولار، لتلقي بظلالها السلبية على الوضع الداخلي للاقتصاد الصيني، وتثير المخاوف بشأن تداعياتها على الاقتصاد العالمي.
ثم أخيرا توجيه الحكومة الصينية لمواطنيها بضرورة تخزين المواد الغذائية لمواجهة حالة طوارئ، قد تفرض قريبا؛ ليترك العالم أمام تكهنات عدة، كان أبرزها احتمال تفشي نوع جديد من كورونا داخل عدد من المقاطعات الصينية، وهو ما ينذر بإمكانية عودة حالة الإغلاق للاقتصاد العالمي مرة أخرى.
ولعل حالة الصراع الأميركي الصيني تفرض نفسها في مجال الإفصاح عن المعلومات، بحيث لا توظف نقاط الضعف في الأزمات الصينية المالية والاقتصادية ضدها، وتضعف موقفها على خريطة القوى الاقتصادية العالمية، ولكن الصين ما دامت قبلت أن تكون أحد الفاعلين الرئيسيين في اقتصاديات العولمة فعليها أن تفصح عما لديها من مشكلات، حتى يتخذ الجميع من الإجراءات الصحية والاقتصادية ما يقيه التداعيات السلبية الناتجة عن الأزمات الصينية.
مقولة "إن كل أزمة لا بد من أن تخلق فرصة" تنسب إلى الأدبيات الصينية، وأنهم عادة ما يتعاملون مع الأزمات من منظور إيجابي، ولكن إذا سلمنا بنتائج هذه المقولة فهي تنطبق أيضا على بقية المشاركين في النظام الاقتصادي العالمي، فقيام الصين كشريك اقتصادي قوي خلال العقود الثلاثة (1990-2010) كان على حساب قوى اقتصادية أخرى في آسيا وأوروبا، وكذلك فتراجعات الصين ستكون بلا شك لمصلحة اقتصادات أخرى.
لا يعني ذلك انتهاء عصر الصين بوصفها قوة إنتاجية واقتصادية كبرى، ولكن يعني تراجع حصتها، مع بقائها على خريطة القوى الاقتصادية البارزة على الصعيد العالمي، ويفرض واقع الصين الجديد التفكير في رصد بعض الفرص المتاحة للآخرين من أزمات الصين الاقتصادية.
المتضررون من أزمات الصين الاقتصادية تلك المتاجر الكبرى في مختلف دول العالم، التي اعتمدت على التدفق المستمر للسلع الرخيصة من الصين، وبنت سياستها التجارية على هذا الوضع، ففي كثير من عواصم العالم تجد المتاجر التي تبيع كل شيء من الصين بأسعار متميزة.
كذلك الصناعات التي اعتمدت على خطوط الإنتاج الصينية، أو مستلزمات الإنتاج، وعدم تنوع مصادر إمدادها، وقصرها على تكنولوجيا واحدة، فالبديل أمام تلك الصناعات التوجه نحو الدول الأوروبية أو الدول الآسيوية التي يمكنها أن تحل محل التكولوجيا الصينية، ولكن هذا البديل سيكون أكثر تكلفة، وذلك يعني ضعف منافسة منتجات هذه الصناعات على الصعيدين المحلي والدولي.
ومن الأضرار التي يمكن أن تلحق بدول نامية أخرى خروج الصناعات الملوثة للبيئة والكثيفة الاستخدام للطاقة من الصين إلى تلك الدول، وهو تكرار لسيناريو أوروبا نفسه في مطلع تسعينيات القرن الـ20، إذ عملت على نقل هذه الصناعات إلى خارج نطاقها الجغرافي، واكتفت باستيرادها من الدول النامية ومن بينها الصين.
كما قلنا سابقا إن الأزمة تخلق فرصة، وأول المستفيدين من أزمات الصين الدول المنتجة للمواد الأولية، فقد ارتفعت أسعار هذه المواد في الأشهر الأولى من عام 2021، ويتوقع أن يستمر هذا الارتفاع إلى أجل متوسط، أي خلال 3-5 سنوات، وهو ما قد يعوض الدول المنتجة للمواد الأولية عما عانته في السنوات القليلة الماضية.
ولعل أسعار الطاقة خير دليل على ذلك، فكل أنواع مصادر الطاقة الأولية تشهد زيادة في أسعارها بالسوق الدولية، النفط والغاز والفحم، وهو ما سينعش صناعة الوقود الصخري من نفط وغاز، وبلا شك سيمثل هذا الأمر ضغطا على العاملين في مجال الطاقة البديلة، ليركزوا استثماراتهم وبحوثهم لإنتاج الطاقة البديلة بكميات وأسعار يمكنها أن تخفف من حدّة ارتفاع أسعار الطاقة التقليدية، حيث تشير التقديرات إلى أن سعر برميل النفط سيبلغ 100 دولار.
ومن المستفيدين أيضا من أزمات الصين تلك الدول التي لديها قواعد إنتاجية قوية، يمكنها أن تحصل على حصة من الإنتاج الصيني الذي يتوقع تراجعه في المرحلة القادمة، ويمكنها كذلك أن تكون في وضع يسمح لها بعدم المرور بالمشكلات التي مرت بها الصين، بحيث يضمن المستوردون على الصعيد العالمي استمرار تدفق البضاعة بجودة وسعر يسمحان بالمنافسة، ولا يفضيان إلى موجات تضخمية.
ومن المستفيدين من تلك الأزمات المصنعون المحليون الذين لم يكن باستطاعتهم منافسة المنتجات الصينية، فقد تتيح لهم الفرصة استعادة مكانتهم، وتشغيل مصانعهم، بشرط تطوير أدائهم، وتعظيم استفادتهم من الفرصة، ومن شأن تفعيل هذا الأمر أن يخفف من أعباء موازين المدفوعات لدول هؤلاء المصنعين المحليين، وأن يسهم في توفير فرص عمل جديدة.
يلاحظ أن تركيا على مدار السنوات الماضية استطاعت أن تحقق تقدما ملحوظا في صادراتها السلعية، على الرغم من الأزمات الاقتصادية العالمية، وكذلك وجود مشكلات تتعلق بانخفاض قيمة عملتها، وارتفاع معدلات التضخم، فقد تجاوزت الصادرات السلعية لتركيا سقف الـ200 مليار دولار.
ولكن الفرصة الحقيقية لتركيا ليست في زيادة الصادرات السلعية، بل عليها أن تطور أداءها لتحل السلع العالية التكنولوجيا في مقدمة صادراتها السلعية، فالعالم في ظل أزمات الصين الحالية يعاني نقص الشرائح التكنولوجية المستخدمة في صناعة السيارات، وذلك أدى إلى ارتفاع أسعارها.
ومن ثم فتركيا عليها أن تكون بديلا يواكب المتطلبات الدولية من السلع العالية التكنولوجيا، ولا مانع من استمرار إنتاجها من السلع التقليدية لأمرين: استمرار حاجة السوق إلى هذه السلع من جهة، والجهة الثانية امتصاص اليد العاملة التي كانت تعاني من البطالة في الفترة الماضية، إذ بلغت نسبة البطالة هناك نحو 12.1% بنهاية أغسطس/آب