توصلت الدول الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" نهاية الأسبوع الماضي، إلى اتفاق بشأن خفض إنتاجها النفطي بنحو 1.2 مليون برميل يومياً، وهو ما أدى إلى زيادة أسعار الخام في الأسواق الدولية، ولا سيما بعد أن ساند القرار بعض الدول النفطية خارج المنظمة، ومنها روسيا التي وافقت أيضا على خفض إنتاجها بنحو 300 ألف برميل يوميا كما صرح وزير النفط الروسي.
وكانت التقديرات تذهب لاستحالة توصل دول أوبك لمثل هذا القرار، بسبب حالة النزاع الداخلي لأكبر عضوين في المنظمة وهما السعودية وإيران، لأسباب سياسية، وكذلك الأوضاع الاقتصادية السلبية والمتدهورة لمعظم الدول الأعضاء، في ضوء أزمة انهيار أسعار النفط التي ألمت بالسوق منذ منتصف العام 2014.
ومثل قرار أوبك بالاتفاق على تخفيض سقف الإنتاج اليومي، حالة نجاح افتقدتها المنظمة منذ سنوات، وذهبت التوقعات لأن يبدأ منحنى أسعار النفط في الارتفاع، ليعوض الدول النفطية، عن خسائرها التي منيت بها، وألحقت بها أضرارا مالية واقتصادية شديدة السلبية، نالت من عجز موازناتها العامة، وجعلت العديد منها يوقف تنفيذ مشروعات استثمارية جديدة، ويؤخر الانتهاء من مشروعات قائمة، فضلًا عن التوسع في الديون المحلية والخارجية، واللجوء لسوق السندات الدولية للاقتراض، بعد غياب امتد لما يزيد عن عقد من الزمان.
ولكن لم يمض على قرار أوبك بخفض سقف إنتاجها سوى يوم واحد، لتفاجئ بقرار إندونيسيا تعليق عضويتها بالمنظمة، بسبب ما يلحق بها قرار خفض الإنتاج من أضرار، وأنها لن تستطيع الالتزام بقرار المنظمة، لما له من تبعات مالية، وبخاصة أن إندونيسيا قد تحولت إلى مستورد صاف للنفط.
وحسب تصريحات جناسيوس جونان وزير الطاقة الإندونيسي لرويترز، من أن بلاده قد أعدت موازناتها المالية لعام 2017 بما يسمح بتحفيض حجم الإنتاج اليومي بما لا يزيد على 5 آلاف برميل، لكن أوبك تطلب من إندونيسيا أن يرتفع هذا التخفيض في الإنتاج اليومي إلى 37 ألف برميل، أي ما يزيد بقليل على 7 أضعاف المخطط له من قبل الحكومة.
رغم أن قرار إندونيسيا اتسم بمبررات اقتصادية، إلا أن هناك سمة توقعات بأن يكون وراء القرار شبهات سياسية لاستغلال الموقف الإندونيسي من قبل أميركا ودول أوروبية، وبخاصة بعد أن أعلنت روسيا عن خفض إنتاجها ليتواكب مع قرار أوبك، وهو الأمر الذي تفاعلت معه أسواق النفط إيجابيًا برفع الأسعار.
ولذلك يعتمد سيناريو تدخل أوروبا وأميركا في القرار الإندونيسي، على أن ذلك يفت في عضد أوبك، ويساعد دولا أخرى على التحلل من قرار تخفيض إنتاج النفط، والعودة إلى حالة فائض العرض، وبالتالي تبقى أسعار النفط منخفضة، وممارسة الضغط على اقتصاديات روسيا، لاعتبارات الملفات الخلافية المفتوحة معها من قبل أوروبا وأميركا.
وثمة سيناريو ثان، يذهب إلى أن تعليق إندونيسيا عضويتها في أوبك، وعدم الالتزام بقرار خفض الإنتاج اليومي، يقف وراءه بعض دول المنظمة ذاتها، والتي رأت أن استمرار رفضها لتخفيض إنتاجها يمثل لها إحراجًا سياسيًا، على الصعيد الداخلي، أو أنها تهدر ثرواتها النفطية في ظل استمرار انهيار أسعار النفط.
وعلى كل الأحوال، سواء كان القرار الإندونيسي يتسم بالاستقلال ويعبر عن أوضاع داخلية خاصة بها، أو يأتي في إطار ترتيب وتنسيق مع قوى خارجية، فإنه من المنتظر أن تكون له دلالات سلبية على سوق النفط، أو على انهيار قرار أوبك بتخفيض حجم الإنتاج، فمن المنتظر أن تشهد أسعار النفط انخفاضًا في الأسعار بعد القرار الإندونيسي، أو على الأقل عدم استمرار موجة ارتفاع الأسعار وثباتها لفترة ليست بالقصيرة عند زيادة محدودة، عند سقف 50 دولاراً للبرميل.
كانت ليبيا والعراق قد أعلنتا من قبل عدم التزامهما بقرار تخفيض سقف الإنتاج، لما تمر به البلدان من حالة حرب تستنزف مواردهما المالية، وثمة دول أخرى ستتخذ من قرار إندونيسيا مبررا للتحلل من قرار تخفيض سقف الإنتاج، ولعل الجزائر وفنزويلا ونيجيريا في مقدمة الدول التي ستعلن عن تراجعها عن تخفيض سقف إنتاجها، بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي تمر بها هذه البلدان.
ولعل أوضاع السعودية المالية تدلل على ارتياحها للقرار الإندونيسي، بسبب المشكلات المالية التي تمر بها المملكة، فمن خلال بعض المؤشرات الاقتصادية المعلنة، نجد أن السعودية تتجه نحو تكريس أوضاع اقتصادية ومالية سيئة، حيث أعلن عن ارتفاع الدين العام السعودي إلى 91 مليار دولار في شهر أكتوبر الماضي، بعد أن كان بحدود 73 مليار دولار بنهاية أغسطس 2016، وهو ما يعني أن الدين قفز بمتوسط نحو 10 مليارات دولار شهريا.
وكذلك فإن احتياطي النقد السعودي تراجع في أكتوبر الماضي ليفقد نحو 26 مليار دولار، وقد لا يكون في صالحها الاستمرار في سياسة تخفيض سقف الإنتاج، لاحتمالية ألا يعوض فارق ارتفاع الأسعار نتيجة خفض الإنتاج للعوائد المتحققة من خلال إطلاق سقف الإنتاج.
في ضوء قراءة الأداء التاريخي للدول أعضاء منظمة أوبك، نجد أنه من الصعوبة بمكان الالتزام بقرارات المنظمة، لعوامل كثيرة، غالبيتها يرتبط بغياب مشروعات تنموية للدول النفطية، وزيادة اعتمادها على العوائد النفطية، مع مرور الوقت.
ولكن قد تحمل إلينا الأيام القادمة أداء مختلفًا لدول المنظمة، بالتزامها بقرار خفض الإنتاج، وأن تكتفي بقرار إندونيسيا بتعليق عضويتها في المنظمة، وبخاصة أن الحصة التي كانت مقررة لتخفيض إنتاج إندونيسيا قد تكون غير مؤثرة، وهي 37 ألف برميل يوميًا، وتستطيع أي دولة نفطية خليجية أن تخفض إنتاجها عوضًا عن إندونيسيا.
وفي هذه الحالة سيكون قرار أوبك له آثار إيجابية، سوف تجنيها دول المنظمة، كما أنه سيكون بمثابة دب الروح في دور المنظمة في السوق الدولية، وإحياء دور المنظمة كممثل للمنتجين في سوق النفط، بعد أن ظل السوق يحتكره المستهلكون على مدار العقود الماضية.
ولذلك نصف هذا السيناريو بأنه مستبعد لطبيعة الأداء السلوكي لأعضاء أوبك، ولكنه ممكن في ضوء رغبة أعضاء المنظمة في إحداث تغيير حقيقي في معادلة سعر النفط في السوق الدولية.
ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة، وهو: هل ستسمح أمريكا وأوروبا من خلال الشركات متعدية الجنسية، أن تستفيد روسيا على وجه التحديد من هذه الخطوة؟ لتكون طوق النجاة لخروجها من أزمتها المالية منذ فرض العقوبات الاقتصادية عليها في الشهور الأولى من عام 2014.
ثمة ملاحظة لابد أن تؤخذ في الاعتبار للدور الأوروبي الأمريكي في التأثير على قرار إندونيسيا بتعليق عضويتها في أوبك، وهي أن القرار الاندونيسي أتي عقب إعلان روسيا عن انضمامها لسياسة تخفيض سقف الإنتاج، على الرغم من أن روسيا كانت حاضرة بقوة في إطار تنسيقي مع أوبك منذ اجتماعات الجزائر التي باءت بالفشل حول اتفاق بشأن تخفيض حجم الإنتاجي النفطي اليومي.
والأيام القليلة القادمة ستمثل مختبرًا صعبًا لأوبك، إما أن تنجح وتتجاوز السيرة السلبية لأدائها في إدارة سوق النفط، وتؤسس لنجاح التنسيق مع الدول النفطية بخارجها، أو تفشل وتثبت أن سوق النفط لا يزال ترسم قواعده أمريكا وأوروبا، وأنه يخضع لحسابات سياسية أكثر من الاعتبارات الاقتصادية.