أيام معدودات ويغادر باراك أوباما البيت الأبيض، بعد ثمانية أعوام قضاها في رئاسة أميركا، ويعد الملف الاقتصادي من أبرز الملفات التي تظهر من خلالها ملامح نجاح إدارة أوباما في ظل مجموعة من الملفات والتحديات في جوانب أخرى.
يترك أوباما أميركا ووضع البطالة أفضل مما كان عليه قبل مجيئه، وكذلك معدل التضخم في أدنى مستوياته أقل من 0.5%، كما أن مقارنة الأوضاع الاقتصادية لأميركا بأوروبا أو الدول الصاعدة، تظهر أن الاقتصاد الأميركي في وضع أفضل، بل يمكن وصفه بالمستقر.
لكن ليس بالضرورة أن تكون معالجة الأوضاع الاقتصادية في أميركا قد تمت وفق إمكانيات ذاتية، أو آليات يمكن وصفها بالسليمة، فالديون تعد عصب الإصلاح الاقتصادي في البلاد، كما أن أميركا صدرت التضخم إلى العديد من الدول الصاعدة والنامية، من خلال آلية التسيير الكمي، بطباعة النقود وشراء سندات الدين العام، من أجل إنعاش الطلب في السوق المحلية الأميركية.
لكن جزءًا لا يستهان به من هذه الأموال خرج من السوق الأميركية إلى أسواق المال بالدول الصاعدة والنامية، مما استوجب على تلك الدول أن تفرض ضرائب على تلك الأموال لتعقيم أسواقها المالية.
وفي ما يلي نرصد بعض ملامح التطور في المؤشرات الاقتصادية الكلية، مع بيان دور الديون في تحقيق ما يمكن أن نراه اليوم من مظاهر استقرار في الاقتصاد الأميركي.
مع وقوع الأزمة المالية العالمية بنهايات 2008، توقع محللون أنه ستكون لها آثار كبيرة في تغيير خارطة القوى الاقتصادية العالمية، كما فعلت أزمة الكساد الكبير في نهاية الثلاثينيات في القرن العشرين، وبخاصة أن الأزمة انطلقت أسبابها من أميركا، وأحدثت هزة عنيفة في المؤسسات الأميركية المالية والاقتصادية.
والتحدي الذي واجه أوباما منذ أيامه الأولى في عام 2009، هو إنقاذ الاقتصاد، لذلك عملت إدارته على تبني سياسة اقتصادية تحفيزية لتسترجع المؤشرات الاقتصادية الكلية لما كان عليه وضع الاقتصاد الأميركي قبل الأزمة، والتركيز على مواجهة تحديات البطالة والتضخم، واستمرار سياسة نقدية تؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف.
وبالأرقام نجد أن معدل نمو الاقتصاد الأميركي في العام الأول لأوباما 2009، كان سلبيًا بنحو 2.8%، لكنه كان أفضل مما تحقق في عام 2008 حيث بلغ معدل النمو –3%، إلا أن عام 2010 وما بعده شهد تحولًا كبيرًا بمعدلات إيجابية بنحو 2.5% في عام 2010، وإن كان في السنوات التالية حقق معدلات أقل، إلا أنها ظلت بمعدلات موجبة، ولعل أفضلها منذ عام 2011 وحتى الآن ما تحقق في عام 2015 بمعدل نمو 2.4%.
ويرجع السبب في تحسن أداء النمو الاقتصادي بعام 2010 وما بعدها، إلى استمرار سياسة التسيير الكمي التي اتبعتها أميركا منذ وقوع الأزمة المالية العالمية، حيث قام المجلس الاحتياطي الفيدرالي بشراء سندات الدين العام بنحو 600 مليار دولار على مدار 7 أشهر، من أجل إتاحة سيولة لتنشيط الطلب والاستثمار الداخلي، مما أدى لتحسن معدلات التشغيل، وزيادة معدلات الناتج المحلي الإجمالي.
أدت السياسات النقدية والمالية في بداية عهد أوباما إلى تنشيط الاقتصاد الأميركي، وتشجيع الاستهلاك من خلال الاستمرار في سعر فائدة يقترب من الصفر، وسياسة التيسير الكمي، ونتيجة لذلك تحسن معدل البطالة، الذي قفز من 5.9% في 2008 إلى 9.4% في السنة الأولى لأوباما، ونتيجة للتبعات السلبية للأزمة المالية العالمية.
إلا أن معدل البطالة أخذ في الانخفاض سنويًا، ووصل في 2015 نحو 6.2%، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2016 أظهرت الإحصاءات الأميركية أن معدل البطالة في أقل مستوياته وأفضل مما كان عليه قبل الأزمة المالية العالمية، حيث بلغ 4.9%. وهو ما استدعى أن تذهب التوقعات لأن يتخذ مجلس الاحتياطي الفدرالي قرارًا برفع سعر الفائدة في ديسمبر/كانون الأول القادم.
لكن التحسن في مؤشرات البطالة كان على حساب ارتفاع الدين العام الأميركي بشكل كبير، حتى تجاوز الدين نسبة 105% من الناتج المحلي في عام 2015 بقيمة 19 تريليون دولار، بعد أن كان لا يتجاوز 10.2 تريليونات دولار في مطلع 2009 وبما يمثل نسبة 75% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أن تكلفة إصلاح الاقتصاد الأميركي أدت إلى زيادة الدين بنحو 8.8 تريليونات دولار، وبنسبة 86.2 %، وبلغ المتوسط السنوي لزيادة الدين العام 1.1 تريليون دولار.
وأجادت أميركا تصدير مشكلاتها إلى الخارج، ولذلك تعتبر آلية زيادة الدين العام، من أسهل الآليات المتبعة كلما مرت أميركا بأزمة اقتصادية، وبخاصة في ظل تمتع البلاد بمكانة كبيرة بين الدول الكبرى، بل وتفردها خلال الفترة من 1990 وحتى 2008 بقيادة العالم، وهو الوضع الذي سمّاه بعضهم النظام العالمي أحادي القطبية.
لكن التوسع في عهد أوباما بآلية الدين العام لم يكن مهمة سهلة دومًا، فقد عارضه الكونغرس في انتهاج هذه السياسة بعد أن تجاوز الدين العام نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك إبان مناقشة واعتماد موازنة 2015، وإن كان البعض يرى أن المعارضة التي واجهها أوباما في هذا الصدد، كانت من قبيل المشاكسة السياسية ومحاولة الجمهوريين الحصول على مكاسب سياسية مقابل تمرير الموازنة بنسبة الدين المرتفعة.
عقب اندلاع الأزمة المالية العالمية، توقع الخبراء أن يعاد تشكيل خريطة القوى الاقتصادية العالمية، وأن يكون للدول الصاعدة دور في موازين القوى الاقتصادية، وأن تكون أبرز معالم هذا التغيير الإطاحة بأميركا من منصة ريادة الاقتصاد العالمي.
وشهدت السنوات التالية للأزمة المالية، بالفعل تراجعاً لوضع أميركا الاقتصادي، وتقدم الدول الصاعدة، حيث ساهمت تلك الدول بنصيب كبير في الصادرات والاستثمارات العالمية تقترب من 50%، ولكن على مدار السنوات الثلاث الماضية، دخلت الدول الصاعدة بلا استثناء في دوامة من المشكلات الاقتصادية، بل يخشى من تفاقم المشكلة الاقتصادية في الصين من أن تقود العالم إلى أزمة مالية كبيرة تفوق أزمة 2008، بسبب وضع مديونيتها الداخلية، وتخلف الشركات عن سداد التزاماتها تجاه البنوك.
إلا أن دول البريكس بإنشائها بنك التنمية الآسيوي استطاع بالفعل أن يغير ملامح سيطرة المؤسسات المالية الدولية على مقدرات الاقتصاد العالمي، ووجود كيان يمكنه منافسة البنك الدولي، الذي تسيطر عليه أميركا وأوروبا، بل إن بعض الدول الأوروبية تسعى للحصول على عضوية البنك الآسيوي.
ومع ذلك يمكن القول إن الدول الصاعدة بانتظار نتائج سلبية لما تعيشه من مشكلات اقتصادية، وأن أميركا استعادت في عهد أوباما حالة من التوازن الاقتصادي، بغض النظر عن آليات تحقيق ذلك، لكنها لم تستطع أن تسترد ريادتها على الاقتصاد العالمي، بسبب منافسة الدول الصاعدة، والسؤال الذي ستجيب عنه الأيام مع مجيء الرئيس الجديد دونالد ترامب، هو: هل ستعمل السياسة الاقتصادية لأميركا على استهداف عودة ريادتها الاقتصادية عالميًا، بعد أن استقر لها الأمر محلياً؟الرئيس الجديد لأميركا سيكون في ظروف عمل أفضل من التي عمل في ظلها أوباما، والدرس المستفاد من تجربة أميركا في ظل رئاسة أوباما، هو أن النهوض ممكن، والخروج من دوامة المشكلات ليس معجزة.