ضرورة توفير فرص العمل
انعكاسات الأزمة عربيا
ملامح إستراتيجية مواجهة البطالة
يبقى العمل قيمة إنسانية، فضلا عن الاحتياجات الاقتصادية للفرد والمجتمع. ومن هنا يهتم الاقتصاديون والساسة، بضرورة توفير فرص العمل، لتحقيق مجموعة من الأهداف، منها: زيادة مساهمة الأفراد في توفير متطلبات حياة كريمة، وتفعيلا لإمكانيات الأفراد وطاقتهم، وعلى رأس هذا كله اتقاء شرور البطالة، وتداعياتها السلبية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وفي ظل أزمة اقتصادية يمر بها العالم، من خلال تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، توقعت دراسة للبنك الدولي بحاجة العالم إلى 600 مليون فرصة عمل في عام 2030، لمواجهة الزيادة السكانية.
وعادة ما يربط الاقتصاديون بين معدلات النمو الاقتصادي المحققة أو المستهدفة، ومعدلات الزيادة السكانية، ويتعارفون على أن معدل النمو في الناتج لا بد أن يكون ثلاثة أضعاف معدل الزيادة السكانية، حتى يمكن استيعاب الاقتصاد للداخلين الجدد لسوق العمل.
"
في ظل أزمة اقتصادية يمر بها العالم، من خلال تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، توقعت دراسة للبنك الدولي بحاجة العالم إلى 600 مليون فرصة عمل في عام 2030، لمواجهة الزيادة السكانية"
ودراسة البنك الدولي وغيرها حول البطالة، وأهمية إتاحة فرص العمل للأجيال القادمة أمر مهم لعالمنا العربي، الذي يعاني من مشكلة بطالة مزمنة، على الرغم من إمكانياته الاقتصادية، التي يمكن أن تخفف من حدة المشكلة بشكل كبير. لكنه غياب التخطيط، وفشل مشروع التكامل الاقتصادي العربي على مدار العقود الماضية، وكذلك غياب الدراسات المستقبلية التي تهتم بمثل هذه القضايا في عالمنا العربي.
العرب جزء من هذا العالم، وللأسف فإن الحضور العربي في واقع الاقتصاد العالمي، لا ينم عن مشاركة فعالة، كما فعلت دول أخرى لتغيير موقفها من المشاركة في الاقتصاد العالمي، فاستفادت من هذه المشاركة، استثمارًا، وتصديرًا، وجلبًا للتكنولوجيا، بينما العرب، ما زالوا يدورون في إطار التبعية الاقتصادية.
لذلك سيكون لأزمة التوظيف تأثير سلبي على الدول العربية، في ضوء معدلات النمو الاقتصادي المتواضعة والقابلة للتراجع تأثرًا بالأداء العالمي، وكذلك بزيادة معدلات الزيادة السكانية.
فتوقعات منظمة الإسكوا تشير إلى أن معدل النمو في المنطقة العربية حقق 3% في عام 2013، مقارنة بـ7.7% في عام 2012، وأن مصدر النمو في العامين بشكل كبير يتمركز في الدول النفطية، بينما معدل الزيادة السكانية في عالمنا العربي بلغ 2.2% في المتوسط خلال الفترة 1990 – 2012.
إذًا فمعدل النمو الاقتصادي المطلوب تحقيقه في مختلف الدول العربية يجب ألا يقل عن 7%، من خلال سياسات اقتصادية تضمن استدامة هذا النمو لفترات طويلة.
ويتوقع في ظل الأحداث العالمية الجارية أن تتراجع أسعار النفط، وكذلك كمياته المنتجة، مما سيكون له أثر سلبي على معدل النمو الاقتصادي بالمنطقة، ليس فقط على الدول النفطية، ولكن كذلك على باقي دول المنطقة، نظرًا للتشابكات الاقتصادية بين اقتصاديات الدول العربية غير النفطية، والدول النفطية، من إتاحة فرص العمل، وتحويلات العاملين بدول الخليج، والسياحة الخليجية بالدول العربية، وحركة التجارة البينية.
وإذا ما استمرت حالة النزاع التي تعيشها المنطقة العربية، على الصعيد القطري، والتهيؤ لنزاعات بينية، أو تدخلات أجنبية، فإن التوقعات الاقتصادية على مدار السنوات الخمس القامة ستكون شديدة السلبية، وبالتالي ستكون البطالة في وضع أصعب مما هي عليه الآن.
ومما يزيد من حدة مشكلة التوظيف عربيًا، غياب التخطيط على الصعيد الإقليمي، وضعف الروابط الاقتصادية البينية. فلا زالت العلاقات الاقتصادية الخارجية للعالم العربي، لصالح الدول الأجنبية، ولا تزيد التجارة البينية بحال عن 8%، ولا تعدو نسبة الاستثمارات البينية العربية أن تكون أفضل من ذلك.
نالت قضية البطالة اهتمام الدارسين والباحثين في مجال الاقتصاد على مدار فترات طويلة. لكن للأسف بقيت هذه الدراسات رهينة الأدراج، وصيغت السياسات الاقتصادية في أجواء سياسية واجتماعية لا تفي بالمتطلبات الاقتصادية، فأدت إلى بطالة سافرة في المجتمع العربي تصل إلى 16 % من قوى العمل، فضلا عن بطالة مقنعة لا حصر لها. وأصبحت وطأة المشكلة أكثر حدة في حياة الشباب الذي تقدر البطالة بينهم بنحو 28%. وبطالة الشباب وغيرهم في المنطقة العربية هي الأعلى بين مختلف أقاليم العالم.
"
معدل النمو الاقتصادي المطلوب تحقيقه في مختلف الدول العربية يجب ألا يقل عن 7%، من خلال سياسات اقتصادية تضمن استدامة هذا النمو لفترات طويلة"
ونحسب أن ما ذهبت إليه دراسة البنك الدولي من أهمية النظر إلى المستقبل، يجعلنا نتخذ نفس المسلك، فنكف عن البكاء على اللبن المسكوب، وننظر إلى ما يمكن فعله، للخروج من مأزق البطالة المرير لمن يعيشون واقعنا الحالي من أبناء الوطن العربي، وحتى لا نصدر المشكلة للأجيال القادمة في شكل أكبر وأفدح مما هي عليه الآن.
في هذا الإطار نستعرض ملامح عامة لإستراتيجية مواجهة البطالة في الدول العربية، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض هذه الحلول ستؤتي ثمارها في الأجل الطويل، وفيما يلي ملامح هذه الإستراتيجية.
– إنهاء حالة النزاع على الصعيد القطري، وحتمية الوصول لحالة من الاستقرار السياسي والأمني، واحترام نتائج العملية الديمقراطية التي شهدتها دول الربيع العربي، وتهيئة المناخ الديمقراطي في باقي دول المنطقة، والإفلات من مخطط الصراعات البينية المسلحة، وتجنيب المنطقة شرور تدخل أجنبي مماثل لما حدث في بداية التسعينيات، تنتج عنه حالة من الاستعمار الأجنبي غير المباشر بشكل أكبر مما هي عليه الآن.
– إعادة النظر في الطريقة التي تتعامل بها الدول العربية مع الاقتصاد العالمي، والتركيز على تعظيم مصالحها من خلال حماية الصناعات المحلية، وكل ما من شأنه زيادة الطاقات الإنتاجية. كذلك مراجعة سياسات الاستيراد المفتوحة على مصراعيها وترشيدها، والحد من المنتجات الاستفزازية وتوجيه القطاعات الإنتاجية القطرية للعمل في إطار سياسة "إحلال محل الواردات"، عملا بمبدأ "حماية الصناعات الوليدة" مع تجنب سياسات الحماية الضارة التي كانت متبعة من قبل.
– ضرورة النظر في مخصصات الإنفاق العام بموازنات الدول العربية، وتوجيه الجانب الأكبر من الإنفاق نحو الاستثمار لخلق فرص عمل حقيقية، والعمل على تخليص هذه الموازنات من المشكلات التي تكبلها من الدين والعجز، وما يؤدي إليهما من إنفاق جار غير مجد، ووقف الإنفاق على التسليح من أجل قمع الحريات، أو النزاع مع دول الجوار.
– أهمية الدخول في أسرع وقت لتعديل منهجية العلاقة بين مؤسسات التعليم واحتياجات سوق العمل، ويستلزم ذلك تغيير ثقافة العمل لدى المجتمع، وبخاصة الأجيال الجديدة.
فالأسواق العربية تحتاج إلى عمالة فنية، وليس إلى خريجي الدراسات النظرية، كما تحتاج الأيدي العاملة المهارة، وليس العمالة غير المدربة. وعلى الحكومات أن تقدم الحوافز التي تدفع الداخلين الجدد لسوق العمل نحو العمل الفني والمهارات، أكثر من غيره.
– تشجيع ثقافة التدريب لدى العاطلين أو لدى العاملين في مجالات لا تتناسب مع مؤهلاتهم وخبراتهم، وأن يكون التدريب له صفة الاستمرار، ولا يكون مرة واحدة من أجل الحصول على فرصة عمل، فالتدريب المستمر يحسن من قدرات الأفراد، ويجعلهم باستمرار مؤهلين للعمل بوظائف مختلفة.
"
إذا لم تدرك الدول العربية مخاطر تصاعد البطالة خلال السنوات القادمة، فإنها ستكون أمام موجات ثورية تتجاوز ما حدث في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011 "
– على الرغم من أن الحديث عن أهمية المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، أصبح كلامًا مكرورًا، إلا أنها الحقيقية المسلم بها لانتشال العديد من العاطلين من كبوتهم، وجعلهم أفرادا منتجين، مع إزاحة المعوقات أمام هذه المشروعات، وتسهيل حصولها على التمويل، وأن يقدم إليها الدعم الفني من الجامعات ومراكز الأبحاث، وأن تركز الحكومات على مهمة التسويق لهذه المشروعات. فالحكومة الهندية مثلا تقوم بمهمة التسويق منذ سنوات للشركات المتخصصة في إعداد برامج الكمبيوتر، التي تطورت فيها الهند بشكل كبير بفضل هذه المشروعات الصغيرة.
– أن تنظر الحكومات العربية إلى القطاع غير المنظم، نظرة مختلفة، إذ إنه يشكل نسبة لا بأس بها من الناتج المحلي العربي، وأن تركز جهود الحكومات لتحويل الجزء الأكبر من هذا النشاط للقطاع المنظم، من أجل جني فوائد متعددة، من بينها تحسين بيئة العمل، والحفاظ على حقوق العمال بهذا القطاع.
– أن تعيد الدول العربية النظر في سياساتها الاقتصادية لتعلي من شأن الأنشطة التي تعمل على توفير فرص عمل أكبر، من خلال مزايا تأمينية وضريبية، مع تبني إستراتيجية تكنولوجية مختلفة عن ما هو متبع حاليًا. فالمعروف في إطار تجارب التنمية، أن الدول التي تعاني من بطالة تتبنى أساليب تكنولوجية كثيفة استخدام العمل، وأن تترك أساليب التكنولوجيا كثيفة رأس المال.
– الانتقال لمرحلة جديدة في مسيرة العمل العربي المشترك تتجاوز الحديث عن حتمياته وضروراته، إلى خطوات عملية تستهدف تنشيط فرص العمل داخل الوطن العربي للعمالة العربية، في إطار من حفظ حقوق العمال، وتوفير بيئة عمل مناسبة لهم، ولن يحدث هذا في ظل المعدلات المتواضعة للتجارة والاستثمار البيني للدول العربية، فلا بد من تجاوز النسب المتواضعة، لنسب تعي حجم التحدي القادم.
– إذا لم تدرك الدول العربية مخاطر تصاعد البطالة خلال السنوات القادمة، فإنها ستكون أمام موجات ثورية تتجاوز ما حدث في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، لتعم ثورات العاطلين كافة المنطقة العربية، ووقتها سيكون الثمن أفدح مما يجب دفعه الآن بمراحل.