في آخر التطورات لأسعار النفط في السوق الدولية، تجاوز سعر برميل النفط سقف الـ86 دولارا للبرميل أمس الاثنين 18 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وهو معدل جديد يعكس مدى الأزمة التي تمر بها سوق النفط، من حيث عدم تلبية العرض للطلب الآخذ في التزايد، وكذلك أسعار الطاقة التي تربك حسابات الدول المستهلكة ووجود حالة من الضبابية بشأن مستقبل أسعار السلع والخدمات في السوق الدولية.
في هذه السطور نحاول أن نلقي الضوء على أزمة الطاقة، من ناحية أسبابها، وتداعياتها، ومستقبلها، والمستفيدين والمتضررين منها.
ثمة مجموعة من الأسباب أدّت إلى ظهور أزمة الطاقة في الشهرين الماضيين، سواء في ما يتعلق بارتفاع الأسعار، أو في ما يخص نقص الإمدادات، وكان لها أثرها الواضح في فواتير استهلاك الكهرباء لدى المواطنين في الدول الرئيسة المستهلكة للطاقة في أميركا وأوروبا وآسيا، أو في نقص الطاقة في الصين التي اضطرت إلى تعطيل الإنتاج في العديد من المصانع، وبخاصة الصناعات الكثيفة الاستخدام للطاقة، كما تأثر ثلثا المقاطعات الصينية بانقطاع الكهرباء في الفترة القليلة الماضية.
وفي ضوء قراءة أسباب الأزمة، يقدم الخبيران بشؤون الطاقة كارلوس فرنانديز وجير جيلي، على موقع وكالة الطاقة الدولية، تحليلا بشأن أزمة الطاقة، ويذكران أن من أسباب الأزمة الحالية تراجع الاستثمارات في مجالي النفط والغاز، بعد تدنّي الأسعار في السوق الدولية، في الفترة 2015- 2020، وكذلك الشتاء الشديد البرودة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية.
كما أن تراجع الإنتاج وتدنّي الطلب على النفط والغاز خلال أزمة كورونا أسهما في انصراف الشركات والحكومات إلى إجراء عمليات الصيانة بحقول الإنتاج، وذلك أثر في العرض سلبًا، في الوقت الذي ينتعش فيه الطلب على النفط والغاز.
وكان لانخفاض المخزونات الإستراتيجية عن متوسطاتها الطبيعية أثر في الأزمة، فانخفاض المخزونات أدى إلى زيادة الطلب، وذلك ساعد على زيادة السعر؛ فنقص مخزونات الغاز الطبيعي في أوروبا في الفترة الماضية بلغ 15% عما كانت عليه تلك المتوسطات في السنوات الخمس الماضية.
وما زاد من أزمة الغاز أيضا اهتمام الشركة الروسية للغاز بالعقود الطويلة الأجل، وعدم التفاتها إلى العقود القصيرة الأجل إلا في نطاق ضيق، وأخيرا أدّت حالة الجفاف في البرازيل إلى تراجع المياه في أكبر خزاناتها للمياه بنسبة 25%، وذلك أثر في إنتاج الطاقة الكهرمائية، ومن ثم زاد الطلب على الغاز الطبيعي.
تشتد أزمة الطاقة في الدول الكبرى المستهلكة للطاقة، التي اعتادت الحصول على الطاقة الرخيصة في الفترة من منتصف 2014 إلى نهاية 2020، وعلى رأس تلك الدول أميركا، وأوروبا، والصين، والهند، وبقية الدول المستوردة للطاقة، حيث ترتفع الأسعار، وتتراجع معدلات الإنتاج.
وثمة حالة من الإرباك تنتظرها اقتصاديات تلك الدول، بسبب موجة التضخم التي تشهدها الآن بشكل أولي، ولكنها ستزيد بلا شك مع دخول أشهر الشتاء، وستكون تداعياتها أكبر، بعد أن تؤثر حركات نقص الإمدادات للطاقة على رفع أسعار المنتجات في الصين وغيرها من الدول التي تعدّ مصدرا رئيسا للسلع التي تمثل احتياجات أساسية للاستهلاك والإنتاج.
أدّى ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي إلى زيادة أسعار استهلاك الكهرباء لدى المستهلكين وكذلك في الصناعات التي تعتمد على الكهرباء المولدة من الوقود الأحفوري (النفط، والغاز الطبيعي، والفحم)، فالأرقام تشير إلى أن أسعار الغاز بلغت 10 أضعاف مستواها منذ عام في كل من أوروبا وآسيا، في حين تضاعف سعر الغاز الطبيعي في أميركا 3 أضعاف في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وفي ألمانيا أدى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي إلى ارتفاع أسعار الكهرباء 6 أضعاف عما كانت عليه في عام 2020.
ولا يمكن الوقوف عند الأثر المباشر للطاقة على أسعار الكهرباء والتدفئة، فمنظمة "الفاو" تشير إلى أن أسعار الغذاء ارتفعت في سبتمبر/أيلول 2021 على أساس سنوي بنحو 32.8%، وسيكون من العواقب السيئة على العديد من الدول إذا تزامنت أزمة ارتفاع أسعار الطاقة مع أزمة ارتفاع أسعار الغذاء، فسيكون لذلك تأثير مباشر على ارتفاع معدلات الفقر والجوع في الدول الأقل نموا، وكذلك في الدول النامية.
ينظر الخبراء إلى وضع الطاقة في العالم خلال الشتاء القادم في ضوء آليات العرض والطلب من جانب، ومن جانب آخر من زاوية طبيعة موسم الشتاء من حيث قسوة البرد، ومدة الشتاء، فإذا استمرت الأوضاع الحالية من طلب نشط على الطاقة، وعرض لا يلبي هذا الطلب، فستكون موجة ارتفاع أسعار الطاقة مستمرة، وقد تتجاوز الـ100 دولار للبرميل، وثمة توقعات تخص الغاز الطبيعي والفحم تذهب إلى أن يبلغ سعر المليون وحدة حرارية 30 دولارا أميركيا، وأن يبلغ سعر طن الفحم 190 دولارا أميركيا.
وبلا شك فإن مرور النصف الشمالي من الكرة الأرضية بشتاء قارس سوف يزيد من استهلاك الطاقة، ومن ثم سيؤدي ذلك إلى زيادة الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون، وحدوث اختلالات مناخية لا تُحمد عواقبها.
الحلول التي يمكن بها تفادي الأزمة تعتمد على وجود حالة من توازن المصالح بين القوى الكبرى المتصارعة، فروسيا اليوم مثلا تجد ضالّتها في تفعيل ورقة الغاز الطبيعي كسلعة "جيوسياسية" لتصفية العديد من الملفات مع أوروبا وأميركا، وتعويض سنوات النفط الرخيص التي أهدرت فيها ثرواتها.
كما أن المعادلة الدولية الخاصة بعلاقة الدول النامية بالدول المتقدمة تحتاج إلى تطور يسمح بإفادة الدول النامية من التكنولوجيا، مقابل حصول الدول المتقدمة على المواد الأولية وعلى رأسها النفط والغاز الطبيعي والفحم، فمنذ سنوات طويلة والدول النامية تطالب بتجارة عادلة، في حين تطالب الدول المتقدمة بتجارة حرة تحقق مصالحها من دون اعتبار لمصالح الدول النامية.
وإن كانت ثمة جهود تبذل، فهناك حاجة إلى ضخ استثمارات جديدة في مجالي النفط والغاز، وإزالة العقبات من طريق الإمدادات، والعمل على ترخيص تكلفة الشحن، وتخفيض تكلفة التأمين على حركة السلع ونقلها.
كشفت الأزمة الحالية عن أن الجهود المبذولة في مجال الطاقة البديلة ما زالت قاصرة عن الوفاء باحتياجات العالم، لتكون بديلا كاملا عن النفط والغاز الطبيعي والفحم، بل قد تساعد الإجراءات التي سوف تتخذها الحكومات لمواجهة أزمة الطاقة، من تخفيض الضرائب، والتسهيلات الأخرى لمنتجي النفط والغاز، إلى تقليص الإنفاق على الاستثمارات المتجهة لمجال الطاقة البديلة، وكذلك الأبحاث الخاصة بها، وهو ما يجعل الرهان على الطاقة البديلة غير مناسب في الأجلين القصير والمتوسط.
لا يمكن الحديث عن أزمة الطاقة من دون الحديث عن المنطقة العربية التي تضم نحو 9 دول مصدّرة للنفط والغاز الطبيعي، حيث تستحوذ الدول العربية على ما نسبته 25% من الإنتاج العالمي من النفط، ونحو 15% من إنتاج الغاز الطبيعي.
وفي الوقت الذي ستستفيد فيه الدول النفطية العربية من ارتفاع أسعار الطاقة في ظل أزمة ارتفاع الأسعار بالسوق العالمية، وبما يخفف من حدة أزمتها المالية في الأجلين القصير والمتوسط، إلا أنها ستدفع الثمن كذلك في ارتفاع فاتورة وارداتها السلعية من جميع السلع الأخرى، لأن الدول العربية غير منتجة للسلع الصناعية بشكل كاف، فضلا عن اعتمادها الكبير على استيراد الغذاء
تعكس حركة الأسعار المرتفعة والمستمرة للنفط والغاز في السوق الدولية نتيجة أولية مفادها أن الدول المصدّرة للنفط والغاز ستكون الرابح من هذه الأزمة، لأنها تؤدي إلى زيادة مواردها من النقد الأجنبي، وتعوضها عن سنوات الطاقة الرخيصة.
فمتوسط أسعار النفط في الأشهر التسعة من عام 2021 كانت عند 62 دولارا للبرميل، أما أسعار أكتوبر/تشرين الأول 2021 فتزيد على 80 دولارا للبرميل، وهو ما يعني أن هناك زيادة بنحو 20 دولارا عن متوسط الأشهر التسعة الأولى.
ولكن إذا نظرنا من زاوية أخرى، هي كيفية استفادة الدول المصدرة من تلك الطفرة الجديدة في الأسعار، من حيث حسن توظيفها لمشروعاتها التنموية، أو تحسين هياكلها الإنتاجية، فإن الاستفادة بلا شك ستكون كبيرة، أما إذا تم إيداع تلك العوائد في أسواق المال للمضاربة على الأسهم والسندات في الأسواق الغربية والأميركية أو الآسيوية فستكون بلا فائدة، وكذلك الحال إذا وظفت هذه العوائد في الإنفاق على التسلح، أو الحروب البينية، أو النزاعات المحلية، فستكون هذه العوائد النقدية بلا فائدة تذكر