آثار مختلفة للنزاع في العراق
المشهد العراقي يربك الدول الخليجية
عائد مزدوج لتركيا
تأتي أحداث العراق لتزيد الصراع في المنطقة العربية بشكل أكبر مما هو عليه، ولا يمثل الوضع في العراق شأنًا داخليًا، حيث إن له جوانب متعددة تؤثر اقتصاديًا على المنطقة والعالم.
فمنذ اللحظات الأولى لتفاقم الوضع في العراق قفز سعر برميل النفط ليصل إلى 110 دولارات في السوق الدولية، وفي حال توسع هذا الصراع ودخول إيران كطرف بشكل مباشر، فمن المتوقع أن تشهد أسعار النفط المزيد من الارتفاع، وهو ما سيساعد على تزايد معدلات التضخم إقليميًا وعالميًا. لكن ذلك سوف يتوقف على البعد الزمني للصراع الدائر في العراق، وقدرة أحد الأطراف المتنازعة على حسم الصراع لصالحها، وما لم يحدث هذا فسوف تتزايد أسعار النفط.
"
سوف يكون لأحداث العراق وتداعياتها آثار بعضها إيجابي والآخر سلبي على دول الجوار، وكذلك على خريطة الحسابات الإقليمية والدولية بالمنطقة
"
فدخول دولتين نفطيتين في صراع داخلي محلي -هما ليبيا والعراق- من شأنه أن يزيد الضغوط على السعودية لزيادة إنتاجها بما يساعد على حدوث المزيد من الارتفاع في أسعار النفط عالميًا.
وسوف يكون لأحداث العراق وتداعياتها آثار بعضها إيجابي والآخر سلبي على دول الجوار، وكذلك على خريطة الحسابات الإقليمية والدولية بالمنطقة، كما قد يؤدي الصراع داخل العراق إلى تركيز الفصائل المختلفة على منابع النفط من أجل السيطرة عليها، وتوجيه عوائدها لصالح مشروع كل فصيل، وهو ما سيخلق واقعًا اقتصاديًا مؤلمًا للعراق، والوصول لتفتيته إلى المخطط القديم بوجود ثلاث دول: واحدة للسنة، وثانية للشيعة، وثالثة للأكراد.
كما قد يكون من نتائج هذا الصراع توقف إنتاج النفط العراقي، الذي يُعتمد على عوائده لتسيير كافة شؤون الدولة العراقية.
وتشير إحصاءات عام 2013 إلى أن الإنتاج العراقي من النفط وصل إلى نحو ثلاثة ملايين برميل يوميًا.
ومن المتوقع أن يكون لإيران دور كبير في الأحداث الجارية بالعراق، سواء كان هذا الدور من خلال التدخل المباشر، وهو ما يمثل توريطًا لإيران في الصراع الداخلي، واستنزافا لجيشها ودخولها بشكل صريح في تكلفة هذه الحرب اقتصاديًا بعد ما نجحت في تجنب هذا الفخ منذ وقف إطلاق النار بينها وبين العراق في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وقد يكون هذا الدور المرتقب لإيران غير مباشر من خلال دعم فصائل الشيعة المؤيدة والمساندة للدور الإيراني في العراق، وعلى رأسها حكومة المالكي.
قد يظن البعض أن إيران مستفيدة من توقف تصدير النفط العراقي، من خلال ارتفاع أسعاره في السوق الدولية، وبالتالي تزيد قيمة صادراتها النفطية، والتي شهدت انفراجة منذ محادثاتها مع الغرب والمعروفة بـ"5+1″.
إن إيران لا تخفي دعمها المعلن لصالح نظام الأسد في سوريا، كما ينتظرها هذا الدور في العراق تجاه رجلها "الضعيف" المالكي، وهو ما سيكبد اقتصاد إيران تكاليف تفوق استفادتها من ارتفاع أسعار النفط، وهو ما يجعلنا نصل إلى أن توريط إيران في الدعم الاقتصادي لحكومة المالكي هو بمثابة تفريغ وصول إيران لاتفاق مع الغرب من مضمونه الاقتصادي، كي لا يستفيد المواطن الإيراني من عوائد النفط المرتقبة، حيث تتراكم مشكلات اقتصادية واجتماعية في المجتمع الإيراني على مدار سنوات حكم أحمدي نجادي، تمثلت في ارتفاع معدلات التضخم والبطالة.
ومن جانب آخر، فإن أحداث العراق، وما نتج عنها من سيطرة القوى المعارضة للمالكي على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، من شأنه أن يؤثر على حجم التجارة غير الرسمي بين إيران والعراق لصالح الأردن وتركيا.
وإذا ما انتهي الصراع في العراق لصالح القوى المعارضة لحكومة المالكي، فإن إيران ستكون قد فقدت سندًا اقتصاديًا، كان يمثل لها منفذًا مهمًا لنشاطها الاقتصادي في ظل فرض عقوبات الغرب وأميركا اقتصاديًا، وكانت العراق -بجوار الإمارات العربية المتحدة- تمثل متنفسًا اقتصاديًا لتعامل إيران مع الخارج اقتصاديًا.
على الرغم من الأجواء التي سادت الشهرين الماضيين لتحسن مناخ العلاقات الاقتصادية والسياسية بين دول الخليج وإيران، وتوقعات بمزيد من زيادة عمق هذه العلاقة اقتصاديًا خلال المرحلة المقبلة، فإن الدول الخليجية سوف يربكها المشهد بالعراق، لتضع في حساباتها تكلفة تأمين حدودها مع العراق، خاصة أن التوجهات الخليجية غير راضية عن أداء القوى المعارضة للمالكي، وتنظر إليها على أنها قوى إرهابية.
"
إن أحداث العراق وما نتج عنها من سيطرة القوى المعارضة للمالكي على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، من شأنه أن يؤثر على حجم التجارة غير الرسمي بين إيران والعراق، لصالح الأردن وتركيا
"
وإذا كانت خريطة دول الخليج قد تبلورت في إطار دعم بعض النظم العربية لتضمن وجود إقليمي قوي لها، من خلال دعمها الانقلاب العسكري في مصر، ودعمها الجيش اللبناني الحكومي بنحو خمسة مليارات دولار من خلال صفقة تسليح فرنسية خلال الشهور الماضية، فإنها أمام متغير مهم أصبح يهدد أمنها مباشرة، من خلال التغير المرتقب في العراق، أو على الأقل استمرار هذا النزاع الداخلي، الذي من شأنه أن يقلق دول الخليج، ويجعلها مشغولة بنفسها، وقد يؤثر هذا على برامج الدعم الخليجية لدول عربية مثل مصر ولبنان والأردن، وكذلك الدور غير الواضح في سوريا من خلال دعم المعارضة المسلحة هناك.
وفي ظل استمرار الأحداث القتالية بالعراق، سوف يستمر تيار الهجرة من العراق إلى دول الجوار، وقد خرجت سوريا من دائرة توجه العراقيين المهاجرين إليها، بسبب ما تعيشه من صراع مسلح على مدار السنوات الثلاث الماضية.
لكن أمام المهاجرين العراقيين منافذ أخرى، منها: تركيا والأردن والسعودية وإيران، وإن كانت السعودية غير مرصودة كمقصد للمهاجرين العراقيين، كما أن إيران سيكون التوجه إليها قاصرًا على العراقيين الشيعة، نظرًا لما يتسم به الصراع في العراق من بعد طائفي.
ويبقى أمام العراقيين الراغبين في الهجرة مخافة الحرب الدائرة في العراق التوجه للأردن أو تركيا.
ويعاني الأردن من استمرار المهاجرين العراقيين منذ أزمة الخليج الثانية عام 1990، كما أضيف إلى المهاجرين العراقيين المهاجرون السوريون، وهو ما يشكل عبئا كبيرًا على اقتصاد ضعيف مثل الاقتصاد الأردني، يعتمد على المساعدات الدولية وأداء ضعيف في اقتصاد الخدمات.
كما أن القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الأردني لا تجعله من المرونة بحيث يستفيد من هذه الميزة المتمثلة في توفير سلع للاجئين العراقيين الجدد، أو تصدير سلع للسوق العراقي، ولن يكون أمام الأردن إلا القيام بدور تجارة "الترانزيت"، لتحويل السلع من الخارج إلى داخل العراق.
ولكن قد يستفيد الأردن من تحويلات العراقيين لذويهم المهاجرين، الذين يقيمون خارج العراق، ولكن هذه الميزة لا تقارن بما يشكله المهاجرون من ضغط على المرافق والمؤسسات الخدمية، خاصة أن العراقيين -بخلاف السوريين- لا يقيمون في معسكرات لاجئين، بل يستأجرون أو يشترون منازل، وهو ما يؤثر على التضخم في قطاع العقارات، نتيجة زيادة الطلب المفاجئ على السكن.
أما تركيا، فإنها تعيش موقفا قريبا من الأردن، من حيث استيعابها المهاجرين السوريين، والذين تستقبلهم تركيا في معسكرات لاجئين على حدودها مع سوريا، ويمنع العديد من السوريين العيش في مدن تركيا ارتفاعُ تكاليف المعيشة بها، فضلا عن صعوبة توفير فرص عمل مستقرة. وبذلك قد يكون وجود مزيد من المهاجرين العراقيين لتركيا نتيجة الأحداث الجارية بالعراق عبئا إضافيا لما تعانيه تركيا من تقديم الخدمات للاجئين.
وهكذا سيصيب تركيا بعض الآثار الضارة نتيجة لجوء بعض المهاجرين العراقيين إليها، ولكن على الجانب الآخر قد تستفيد تركيا -على عكس الوضع في الأردن- من تحويل جزء من التجارة التي كانت تفوز بها إيران، مما يساعد على زيادة حركة التجارة بين العراق وتركيا، خاصة أن الاقتصاد التركي لديه قاعدة صناعية إنتاجية تمكنه من ذلك، فاقتصاد تركيا يعتمد على الصادرات بشكل كبير.
ومن جانب آخر، قد يحرك هذا الواقع الجديد بالعراق الوضع المتجمد والخاص باستيراد تركيا النفط من إقليم كردستان، والذي جُمد اتفاق بشأنه قبل أن يبدأ خلال الشهر الماضي.
"
هناك طرف مهم في المعادلة لا بد من أخذه في الحسبان، وهو دور القوى الدولية، فهي معنية بضرورة استمرار التدفق النفطي من العراق
"
ففي ظل السيولة السياسية التي يعيشها العراق، قد يكون من السهل تحريك هذا الاتفاق مرة أخرى، ليسهل على تركيا حصولها على النفط العراقي من خلال إقليم كردستان، حيث تعتبر تركيا مستوردًا صافيًا للنفط، فنحو 90% من احتياجات تركيا النفطية يتم استيرادها من الخارج.
وتعد تركيا من الدول التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع طرفي الصراع -سواء إيران أو العراق أو بعض دول الخليج- فقد وصل حجم التبادل التجاري بين إيران وتركيا لنحو ثلاثين مليار دولار، وسوف تساعد الأزمة بالعراق على أن يتزايد حجم التبادل التجاري بين إيران وتركيا من جانب، وكذلك العلاقات التركية العراقية من جانب آخر.
ما ذُكر خلال السطور الماضية يخص الدول الإقليمية المعنية بالنزاع داخل العراق، ولكن هناك طرفًا مهمًا في المعادلة لا بد من أخذه في الحسبان، وهو دور القوى الدولية، فهي معنية بضرورة استمرار التدفق النفطي من جهة، وكذلك ما أثير في الإعلام الغربي من وصف القوى المعارضة للمالكي بالإرهاب.
فسوف تحدد مصالح هذه القوى إطالة أو قصر هذا النزاع، سواء كان من خلال تدخلها المباشر، كما نشر عن رغبة حكومة المالكي بتوجيه أميركا ضربة جوية لمعارضيه، أو من خلال توجيه دور الدول الإقليمية لتحقيق هذه النتيجة من خلال الآليات الاقتصادية والإنسانية، سواء من خلال منع أو فتح حركة التجارة واستقبال اللاجئين، أو من خلال تدخل عسكري مباشر، وهو ما يعني مزيدا من اشتعال الموقف وتعقد جوانبه ونتائجه الاقتصادية.