الرئيسية / مقالات تحليلية / مستوى المعيشة الحق المهدر

مستوى المعيشة الحق المهدر

  • بقلم: أ. عبد الحافظ الصاوي
  • 16-08-2005
  • 113
مستوى المعيشة الحق المهدر
  • المصدر: إسلام أون لاين . نت

يروى عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري تلك المقولة التي تعبر عن حاجة الإنسان لأمور ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها، حيث يقول: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"، وليس في ذلك دعوة للخروج على ناموس المجتمع، ولكن مغزى الكلام أن النفس البشرية لا تستقيم إلا في ضوء تلبية احتياجاتها الأساسية، والتي لا يمكن الاستغناء عنها أو هدرها كما يحدث الآن في مجتمعات عديدة.

فحاجات الإنسان تظل قائمة ما بقي هو على وجه الأرض، لكن الحصول على هذه الحاجات يتوقف على أمور كثيرة منها: سعي الإنسان إلى إشباعها، وإلى أي مدى تفي موارد المجتمع بحاجات القائمين فيه، وأيضا إلى أي مدى تتحقق العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل هذا المجتمع.

ويرتبط إشباع حاجات الناس بما نسميه في العصر الحديث "مستوى المعيشة" الذي تعرفه المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنه: "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية، وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة، وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته".

لكن لا بد من الالتفات إلى أن مستوى المعيشة اللائق ليس هو فحسب مستوى الدخل السائد في مجتمع ما، ولكن إلى أي مدى يستطيع هذا الدخل أن يلبي احتياجات الفرد الأساسية، ويوفر له حياة بلا منغصات، ففي الولايات المتحدة الأمريكية والتي تأتي في مقدمة الدول الغنية والمتقدمة، نجد بها فقراء لكنهم لا يتشابهون مع نظرائهم الأفارقة مثلا، حيث إن الفقير الإفريقي معدم ويواجه شبح الموت لفقدانه ما يسد به رمقه، بينما الأمريكي مشكلته في الفقر هي انخفاض نصيبه من التعليم أو استخدام الأدوات الكهربائية، أو التليفونات ووسائل المواصلات الحديثة.

أذكر في هذا السياق نصيحة أحد الخطباء حين كان يتحدث عن الحسد، فنصح المصلين بأنهم حين يرون أحدا في نعمة مثل سيارة فارهة، فلا يقع في نفس المسلم شيء من ذلك، وعليه أن يقول: "اللهم بارك لصاحبها فيها وارزقني خيرا منها"، وأوضح الخطيب أن معنى "خيرا منها" ليس بالضرورة أن تكون سيارة أحدث أو أفضل منها، ولكن قد تكون دراجة وتقضي حاجتك.

فالعبرة أن تيسر معيشة الناس، لا في أن يمتلكوا أحدث أو أغلى المقتنيات، وليس في هذا دعوة لترك ما هو حديث وغالٍ، ولكن العبرة بأن الحياة يمكن عيشها في ظل أدوات وموارد ذاتية، ولكنها متاحة وغير متعذر الحصول عليها.

الكفاف أم الكفاية

ولعل هذا المعنى البسيط يرتبط بشكل مباشر بالفلسفة العامة للإسلام في رؤيته للمشكلة الاقتصادية، حيث يرى حلها بهدف رفع مستوى المعيشة وتحسينه، لا مجرد توفير الضرورات الأساسية؛ لأن الغاية من وجود الإنسان هو الاستخلاف، وليس فقط أن يلبي طلباته المعيشية دون أن يتمكن في الحركة.

وهذا المعنى يسمى بحد الكفاية والذي يعرف بأنه الحد الذي يوفر للفرد متطلباته بالقدر الذي يجعله في بحبوبة من العيش، وغنى عن غيره، وهو يختلف عن حد الكفاف الذي يعرفه الاقتصاد الوضعي الذي يشير إلى الاقتصار على توفير الحد الأدنى اللازم للمعيشة، والمتعلق بمتطلبات البقاء أو الحاجات الأساسية الجوهرية التي لا يستطيع المرء أن يعيش بدونها، فالإنسان الذي يعيش على حد الكفاف هو إنسان عاجز عن الإنتاج أو العطاء، فضلا عن الابتكار وتحقيق تنمية.

ولا يقتصر حد الكفاية على إشباع المقاصد الضرورية فحسب، وإنما يشمل أيضا إشباع المقاصد الحاجية التي لا توقع الإنسان في المشقات والحرج، وكذلك المقاصد التحسينية وهي الأشياء التي لا تصعب الحياة بدونها، لكنها تسهل الحياة وتحسنها، ويضاف إلى ذلك المقاصد الكمالية التي تحفظ على الناس مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وذلك كلما سمحت موارد المجتمع.

ويتصف حد الكفاية بالمرونة حسب الزمان والمكان، وقد عبر عن هذا المعنى الإمام باقر الصدر فقال: "الكفاية من المفاهيم المرنة، التي يتسع مضمونها كلما زادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يسرا ورخاء. وعلى هذا الأساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية للفرد من غذاء ومسكن ولباس، وأن يكون إشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية والكمية في مستوى الكفاية بالنسبة إلى ظروف المجتمع الإسلامي". ويتابع قائلا: "كما يجب على الدولة إشباع الحاجات الأساسية من سائر الحاجات التي تدخل في مفهوم المجتمع الإسلامي عن الكفاية، تبعا لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه".

ويتفق مع هذا المعنى ما أورده د. محمود الروبي -أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر- بقوله: "يتصف هدف حد الكفاية في الإسلام بقدر كبير من المرونة والديناميكية، بجعله يتفاوت في مستواه وعناصره باختلاف الزمان والمكان والظروف الشخصية والمهنية للفرد، فهو كما يقول الإمام الشاطبي في الموافقات (يختلف باختلاف الساعات والأحوال)".

أما مكونات حد الكفاية فهي تسع مجالات تشمل المطعم والملبس والمسكن وأدوات الإنتاج اللازمة، ووسيلة الانتقال، والتعليم وقضاء الديون، والزواج والنزهة.

ومن هنا نرى الفرق بين مستوى المعيشة وفق رؤية المعنيين بالفكر الاقتصادي الغربي والفكر الإسلامي، حيث إن مستوى المعيشة وفق الرؤية الإسلامية لا يرتضي أن يعيش الإنسان بعيدا عن مكوناته النفسية التي تتطلع إلى أن تحيا لتتنعم بموارد المجتمع في إطار الحلال.

شروط حد الكفاية

ولكن لا بد من استيعاب أن المجتمع المسلم حينما يوفر هذا القدر من المستوى المعيشي اللائق بالآدمية، فإنه يقوم على أسس لا يمكن الاستغناء عنها: أولها صلاح الحاكم والدولة، وثانيها عدالة النظم الاجتماعية والاقتصادية السائدة بها، بما يضمن عدالة توزيع الثروة، أما ثالث الأسس فهو قيام المجتمع الأهلي بالدور المنوط به من مراعاة مبادئ الإسلام تجاه الإنسان لأخيه الإنسان، فلا تؤخر الزكاة، ولا يضن المجتمع بالصدقات، ولا يكون هناك نوع من السرف المذموم أو الأنانية.

ومن المهم الإشارة إلى أن مستوى المعيشة اللائق بالإنسان معيشيّا تحقق في الأزمنة التي تحققت فيها هذه الشروط التي ذكرناها مثل عصر الخلافة الراشدة، وعصر سيدنا عمر بن عبد العزيز، وبقدر ما تقترب الدول من هذه الشروط تقترب من تحقق مستوى المعيشة اللائق بالإنسان.

فهناك دول ومجتمعات عدة حققت معدلات عالية من النمو والازدهار والتقدم الاقتصادي، ولكن لم يتحقق فيها القضاء على الفقر، أو مستوى معيشي لائق لعموم أفرادها، ويرجع هذا لغياب نظم اجتماعية واقتصادية عادلة لتوزيع الثروة بها، أو غياب دور المجتمع الأهلي أو وجود نظم حكم ديكتاتورية.

بل إن فلسفة النظام التي ينبثق منها أداؤه، وتحدد غايته أمر هام وحيوي، وكما يقول د. محمد شوقي الفنجري: "المال في الإسلام ليس غاية، وإنما هو وسيلة لراحة الإنسان وسعادته ليكون بحق خليفة الله في أرضه، بينما المجتمعات الوضعية الحديثة جعلت الرخاء المادي هدفها الأساسي إن لم يكن مطلبها الوحيد، فانزلقت في عبادة المادة أو على الأقل طغت عليها المادة، وما استتبع ذلك من علاقات سياسية وأخلاقية مادية أشقت الإنسان، وأصبحت تهدد وجوده".