تبنت دول الخليج عام 2009 الدعوة للفصل بين المسارين السياسي والاقتصادي في العمل العربي المشترك، وضرورة تغليب المصالح الاقتصادية لبناء الوحدة العربية، وكانت ثمرة هذه الدعوة انعقاد أول قمة اقتصادية عربية في الكويت في ذلك العام، على أن تنعقد كل عامين إلا أنها توقفت بعد قمة الرياض عام 2013، بسبب التداعيات السلبية لثورات الربيع العربي، والخلاف الخليجي تجاه تلك الثورات، وأيضاً ما ألم بدول الخليج من أزمات اقتصادية بعد أزمة انهيار أسعار النفط منذ منتصف عام 2014.
دول مجلس التعاون الخليجي هدمت هذه القاعدة في تعاملاتها البينية أخيراً، وكان الشاهد على ذلك إجراءات الحصار من قبل دول خليجية وعربية لدولة قطر، على الرغم من أن الخلاف سياسي، وتعددت أسبابه مع مرور الوقت.
في أزمة الحصار الخليجي العربي لدولة قطر، أتُخذ من الاقتصاد أداة للصراع -ووظفت فيها أدوات أخرى- إلا أن القرارات التي أتُخذت في هذه الأزمة على الجانب الاقتصادي حتى الآن، تفتقد لمراعاة قواعد الحروب الاقتصادية أو استخدام الأدوات الاقتصادية كأوراق للضغط لتحقيق أهدافها، كما أن بعض القرارات افتقدت لقواعد الرشد الاقتصادي.
فعلى صعيد دول الحصار اتخذت قرارات منع الرحلات الجوية، ومنع وصول السلع الغذائية إلى قطر، وطالبت دول الخليج المشاركة في الحصار مواطنيها بمغادرة قطر، وأن يغادر القطريون أراضيها. وبتناول هذه الأدوات بنظرة تحليلية على الصعيد الاقتصادي، لا نرى أنها يمكن أن تكون أوراق ضغط يمكن من خلالها حسم الصراع، وإرغام قطر على تنفيذ مطالب دول الحصار.
فالبدائل وإن كانت مكلفة مادياً، إلا أنها متاحة، وقد يكون استمرار الحصار لفترة طويلة، فرصة لترتب قطر أوضاعها لتقليل التكلفة بشكل كبير، بينما تخسر دول الحصار ما كان متاحاً لها من تعاملات تجارية واقتصادية مع قطر، فعلى سبيل المثال عدم وصول السلع الغذائية برياً عبر السعودية، مع المدى المتوسط والطويل يمكن للنقل البحري أن يقلل التكاليف المرتفعة للنقل الجوي، كما أن الحصار الجوي يمكن أن يؤدي إلى ترتيبات مع الخطوط الجوية القطرية والخطوط الأخرى، بما يخفف من وطأة منع الخطوط الجوية القطرية من استخدام المجال الجوي لدول الحصار.
– غاب عن دول الحصار أنها لا تملك أي أدوات للإلزام بمنع الدول الراغبة في مساعدة قطر حالة فرض حصار عليها، وبخاصة أن الأزمة في بدايتها وظفت لصالح قطر في إطار إنساني بمنع المواد الغذائية، وحين اتخذت دول الحصار قراراتها الخاصة بحصار قطر لم يكن لها سند إقليمي أو دولي، كما فعلت أمريكا والاتحاد الأوروبي ضد كل من ليبيا والعراق وإيران، من توظيف مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، أو التحكم في مقدرات النظام المالي العالمي، عبر شبكات المصارف الدولية، أو النظام النقدي.
– تراهن دول الحصار على إمكانية التأثير على شركائها التجاريين بإعلانها بالتفكير في أن تخيرهم بين التعامل معها أو مع قطر، كما جاء في تصريح عمر غباش سفير الإمارات بروسيا، ولا شك أن هذا التصريح تنقصه الحسابات الاقتصادية، فإذا كانت دول الحصار في خلاف مع قطر، وتستدعي كافة الأدوات للتضييق على قطر، فمن الصعب نقل المعركة بحساباتها الاقتصادية المعقدة لأكثر من طرف، وبخاصة أن دول الحصار الخليجية لا تملك إلا ورقة النفط للضغط على الشركاء التجاريين، وهي ورقة تضر أكثر مما تنفع الدول الخليجية المشاركة في حصار قطر، بسبب انهيار أسعار النفط في السوق الدولية وتوفره بكميات كبيرة.
وعلى الجانب الأخر، تسارع قطر لكسب ود مناصرين لها على الصعيدين الإقليمي والدولي، من خلال الدخول في صفقات اقتصادية، أو الوعد بضخ استثمارات جديدة، أو بشراء أسلحة، كما حدث في تعاقدها على استيراد سبع قطع بحرية من إيطاليا. أو تصريحات وفد من رجال الأعمال بتركيا لضخ المزيد من الاستثمارات القطرية هناك.
والذي يمكن استخلاصه من أداء الطرفين في محاولة كسب شركاء ومناصرين، هو السباق في إهدار الموارد المالية، والتي يمتلكها الطرفان، وإن كانت بشكل أكبر متوفرة لدى كل من السعودية والإمارات، إلا أن احتياطيات قطر من الغاز الطبيعي، وزيادة الطلب العالمي عليه، يشجعها على التمادي في دخول صراع استنزاف الموارد المالية والطبيعية مع دول الحصار.
– في خطوة تعتبر إجراءً سياسياً بامتياز، اتجهت قطر لاستيراد 4 آلاف بقرة حلوب من ألمانيا، لتوفير 30% من احتياجاتها من الألبان، والمعلوم أن قطر وباقي دول الخليج لا تمتلك المقومات الطبيعية للاستثمار الزراعي والحيواني، سواء من المياه العذبة أو الأراضي الزراعية، أو المناخ المناسب، مما سيجعل التكلفة الاقتصادية لإنتاج الألبان في قطر، أعلى بكثير من تكاليف استيراده. وبخاصة أن مصادر توفير الألبان من تركيا أو إيران ممكنة. والقرار القطري يذكرنا بقرار المملكة العربية السعودية في منتصف الثمانينيات حينما قررت إنتاج القمح بالاعتماد على مخزون المياه الجوفية، وهو ما أمكن تحقيقه من الجوانب الفنية، ولكنه أتى في ظل تكلفة اقتصادية عالية، وعلى حساب استنزاف مخزون المياه الجوفية، مما دعا السلطات السعودية فيما بعد لإيقاف المشروع.
وتكلفة توفير الألبان في قطر لن تتوقف عند مجرد إقامة حظائر لأبقار ورعايتها، بل لابد من إقامة مصانع للتعبئة والتغليف كذلك، وهذه إضافة أخرى للتكاليف، ولكن رغبة قطر في إيصال رسالة لدول الحصار بقدرتها على اتخاذ القرارات الصعبة وتحمل كامل تكلفتها، دفعها لاتخاذ قرار يفتقد للمقومات الاقتصادية السليمة.
وكان يكفي قطر في مجال الأعباء الاقتصادية الخاصة بأزمتها والتي لها جانب زراعي، هو توفير مراعي بديلة عبر الحظائر لنحو 15 ألف رأس ماشية تم طردها من الأراضي السعودية، التي كانت توفر مراعي مجانية للماشية المملوكة لقطريين بالقرب من حدودها.
– وعلى الجانب الآخر، نجد أن الإمارات قررت مؤخراً استيراد مكثفات نفطية من أمريكا، كبديل عما كانت تستورده من قطر، على الرغم من أن قطر، لم تستخدم هذه الورقة في إدارة صراعها مع الإمارات والسعودية، وأعلنت أنها ستستمر في ضخ تلك المشتقات، ولنا أن نتخيل تكلفة النقل لتلك المكثفات من أمريكا للإمارات. فبلا شك ستكون التكلفة عالية على ميزانيات المؤسسات المستفيدة -شركة أدنوك- من تلك المكثفات النفطية المستوردة من أمريكا. ووفق المعايير الاقتصادية، كان الأولى أن تستفيد الإمارات من التعهد القطري بعدم قطع إمدادات الغاز الطبيعي، ولكنه العناد السياسي. وإذا كانت الإمارات تهدف من قرارها أن تتكبد قطر تكلفة عدم التصدير لهذه المكثفات، فهو تصور تنقصه الدقة، حيث أن السوق العالمي يمكنه استيعاب هذه الكميات بسهولة شديدة.
ما يمكن قراءته من التصرفات غير الرشيدة اقتصادياً للطرفين، أن الأزمة الخليجية ممتدة لوقت طويل، وبدلاً من توظيف الطرفين للمصالح الاقتصادية الموجودة لتقريب وجهات النظر، واعتبارها جسراً للتصالح، تم التضحية بها، بل والتعنت في إهمالها