يعكس التاريخ مدى عمق العلاقات بين مصر وتركيا في مختلف الجوانب، فضلا عن كون البلدين يمثلان حاليا قوى إقليمية لها اعتبارها في العديد من ملفات المنطقة، كما أن هناك ملفات تشهد تقاطع علاقات البلدين بشكل مباشر، مثل الملف الليبي، وملف غاز شرق المتوسط.
وقد مرت العلاقات بين البلدين على الصعيد السياسي والدبلوماسي بأزمة حقيقية، منذ يوليو/تموز 2013، وإن كانت العلاقات التجارية على وجه التحديد لم تتأثر بشكل سلبي بهذه الأحداث، كما أن رجال الأعمال المصريين رفضوا إلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، فيما قامت الحكومة المصرية بإلغاء اتفاقية النقل بين البلدين المعروفة باسم "الرورو".
إلا أن العامين الماضيين شهدا تطورا إيجابيا في إطار العلاقات السياسية والدبلوماسية، والتي كان أبرز ملامحها المصافحة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في افتتاح نهائيات كأس العالم لكرة القدم "قطر 2022".
ومؤخرا، تبادل وزراء الخارجية لمصر وتركيا الزيارات الرسمية، ومن المتوقع أن تعود العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لمستوى عودة السفراء قريبا، ويصاحب عودة العلاقات الدبلوماسية والسياسية، نشاط تجاري واقتصادي ملحوظ.
ففي عام 2019، كانت قيمة التبادل التجاري بين البلدين بحدود 5.4 مليارات دولار، وذلك وفق بيانات معهد الإحصاء التركي، ولكن بنهاية عام 2022 بلغت قيمة التبادل التجاري 7.1 مليارات دولار.
وعلى مدار الفترة من 2019 إلى 2022، كان ميزان التجارة في صالح تركيا، إذ بلغ فائض التجارة التركي مع مصر 1.6 مليار دولار في عام 2019، ولكنه قفز إلى 2.3 مليار دولار وإلى ملياري دولار في عامي 2021 و2022 على التوالي.
وتأتي مصر في قائمة أكبر 20 دولة مستوردة للسلع التركية في عام 2022، وقد احتلت مصر المرتبة الـ16 في هذه القائمة، بينما لا تأتي مصر ضمن قائمة أكبر 20 دولة تستورد منها تركيا، وإذا كانت قيمة التبادل التجاري بين البلدين تزيد على 7 مليارات دولار في عام 2022، فإن ذلك لا يمثل سوى ما يزيد بقليل على 5% من إجمالي تجارة مصر الخارجية التي تقترب من 130 مليار دولار في العام المالي 2021/2022.
أما بالنسبة لتركيا، فقيمة التجارة السلعية لها مع مصر، لا تمثل سوى 1.13% من إجمالي تجارتها السلعية مع دول العالم والتي بلغت 617 مليار دولار بنهاية 2022.
وإن كانت الأوزان النسبية مهمة لطبيعة العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدولتين، فإن هناك ما وراء تلك العلاقات من مصالح مباشرة وغير مباشرة، بعضها اقتصادي وبعضها سياسي، لذلك فكل من مصر وتركيا حريصة على بقاء هذه العلاقة، بل وزيادتها.
ونقلت وسائل الإعلام عن القائم بأعمال السفير التركي بالقاهرة صالح موطلو، أن بلاده تأمل أن تصل قيمة التبادل التجاري مع مصر إلى 20 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، وقدر رئيس جمعية رجال الأعمال الأتراك نهاد أكينجي، عدد الشركات التركية التي تعمل في النشاط الاقتصادي بمصر بـ200 شركة، وباستثمارات تصل إلى ملياري دولار، وتوفر هذه الشركات آلاف فرص العمل.
وأما فيما يخص بيانات البنك المركزي المصري، حول الاستثمارات التركية المباشرة في مصر، فتظهر النشرة الإحصائية الشهرية، أن الاستثمارات التركية المباشرة بمصر بلغت 179.9 مليون دولار في عام 2021/2022، مقارنة بـ137.1 مليون دولار في عام 2020/2021، وهو ما يعكس زيادة قيمتها 42.8 مليون دولار بين العامين، وبنسبة زيادة تصل إلى 32% تقريبا.
حسب ما نشرته إحدى وسائل الإعلام التركية المتخصصة في الشأن الاقتصادي، فإن واحدة من كبرى الشركات التركية المتخصصة في حديد التسليح، ستدخل في شراكة قريبا مع طرف محلي بمصر، لإنتاج حديد التسليح.
الجدير بالذكر أن حديد التسليح التركي إحدى السلع المهمة التي تستوردها مصر من تركيا، وكون الشركة التركية ستقوم بإنتاج مشترك لهذه السلعة الحيوية في مصر، فقد يساعد هذا بشكل كبير في تهدئة أسعار الحديد بمصر، حيث وصلت أسعاره في الفترة الماضية لمستويات عالية.
وكانت مصر قد قامت بتصفية مجمع الحديد والصلب في عام 2021، وأوقفت نشاط الشركة، بعد ما يزيد على 67 عاما من بدء نشاطها، وبلا شك أن ذلك يترك فجوة في الطلب على حديد التسليح بمصر، ويمكن للشراكة التركية الجديدة، من الاستحواذ على مساحة جيدة بالسوق المصري.
ويتركز نشاط الشركات التركية العاملة في مصر منذ عام 2005 في مجال المنسوجات والملابس الجاهزة والأدوات المنزلية، وقد رصد أن هذه الشركات تستهدف بالأساس الأسواق الأوروبية والأفريقية، من خلال الإفادة من عضوية مصر في اتفاقية الشراكة المصرية – الأوروبية، وكذلك عضوية اتفاقية الكوميسا.
وضمن مساعي تمتين العلاقات الاقتصادية والسياسية، عرضت تركيا على مصر، استخدام العملات المحلية في تسوية المعاملات التجارية والمالية، وهي خطوة أقدمت عليها مصر وتركيا مع بلدان أخرى، من شأنها أن تخفف من حدة مشكلة النقد الأجنبي في مصر.
وفي الوقت نفسه تعزز من موقف العملات المحلية للبلدين، حيث تعاني كل من الليرة التركية والجنيه المصري من تراجع قيمتهما على مدار الفترة الماضية، وإن كانت المشكلة أكثر حدة في العملة المصرية، ومن شأن الدخول في هذه الخطوة أن تزيد من قيمة التبادل التجاري والمعاملات المالية بين البلدين.
ولكن حسبما نقلت وسائل الإعلام عن مصادر مصرية، فإن مصر ترى تأجيل هذه الخطوة لمدة عامين على الأقل، لاعتبارات فنية، ترتبط بالسياسات النقدية، وكذلك تمكين البنوك المركزية في البلدين من امتلاك آليات التعامل بالعملات المحلية.
الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، وبخاصة بعد تعقد العلاقات الدولية، وتشابك المصالح إلى حد كبير، ولا توجد علاقات اقتصادية دون مصالح سياسية، ولا توجد علاقات سياسية دون مصالح اقتصادية، وبين مصر وتركيا، ملفات عالقة على الصعيد السياسي، لا بد من تجاوزها.
فهل ستكون التطورات الإيجابية التي تشهدها العلاقات التجارية والاقتصادية تمهيدا لاختراقات في الملفات السياسية العالقة بين البلدين، وعلى رأس هذه الملفات، قضية غاز شرق المتوسط، والتي تعتبر قضية شديدة الأهمية لتركيا، فهي دولة مستوردة لحصة كبيرة من احتياجاتها من الطاقة، تصل إلى 90%؟
وإذا ما توصل البلدان لحل لملف غاز شرق المتوسط، فهل سنرى تركيا عضوا ثامنا في منتدى غاز شرق المتوسط؟
السياسة تعلمنا أنه لا شيء مستبعدا، ولكن ليس هناك شيء بلا ثمن، فهل تكفي العلاقات التجارية والاستثمارية المتصاعدة لأن تكون ثمنا لاختراق ملف غاز شرق المتوسط، وما يحمله من تعقيدات بين مصر وتركيا؟
فضلا عن الوجود التركي في ليبيا، وما يعكسه ذلك من مصالح اقتصادية وسياسية بالنسبة لتركيا، في حين تطالب مصر بإنهاء الوجود التركي على الأراضي الليبية، والملف الليبي متعدد الأقطاب الإقليمية والدولية، فهل ستستطيع مصر وتركيا، أن ينهيا حالة الصراع في ليبيا، والدخول في مرحلة إعادة البناء؟
وبخاصة أن للبلدين خبرة كبيرة في مجال الإنشاءات والبناء، وهي مرحلة تحتاجها ليبيا بشكل كبير، لإعادة بناء وتأهيل البنية الأساسية.