في أول رد فعل لإعلان الاتفاق بشأن صفقة مدينة رأس الحكمة بين مصر والإمارات، تراجع سعر صرف الدولار في السوق الموازية في مصر، إلى ما بين 48 جنيها و52 جنيها للدولار، بعد أن كان في حدود 64 جنيها.
جاء التحسن في سعر صرف الجنيه فور إعلان الصفقة، التي قدرت قيمتها بـ35 مليار دولار، ومن المقرر أن تدفع الإمارات منها 24 مليار دولار على دفعتين، الأولى خلال أسابيع والثانية بعد شهرين، بالإضافة إلى تسوية وضع 11 مليار دولار كانت ودائع للإمارات لدى البنك المركزي المصري، ليتم إسقاطها من قيمة الدين الخارجي المصري.
وتبرز هنا تساؤلات، لعل أهمها حول إمكانية مواصلة ارتفاع سعر صرف الجنيه، بعد تنفيذ الصفقة وإتمام المراجعة الأولى والثانية من برنامج الاقتراض من صندوق النقد الدولي مع زيادة قيمة الاتفاق.
وللإجابة عن هذا السؤال، لا بد من معرفة وضع التدفقات الداخلة والخارجة للنقد الأجنبي في مصر، والتداعيات السلبية المؤثرة على التدفقات من مصادرها الرئيسة.
إذا كانت بيانات البنك المركزي تشير إلى وجود عجز في صافي الأصول الأجنبية بنحو 27 مليار دولار مع نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن شطب قيمة ودائع الإمارات من الدين، بلا شك، يحسن من وضع العجز بصافي الأصول الأجنبية، لكنه من غير المرجّح أن ينهي المشكلة.
من المتوقع أن يبقى عجز الأصول الأجنبية في أحسن الأحوال عند 16 مليار دولار، وقد يزيد في ضوء توجه الجهاز المصرفي -بشكل خاص والحكومة بشكل عام- نحو التوسع في الاقتراض من الخارج.
وقد يؤدي هذا الأمر إلى استمرار الضغوط على الجنيه المصري، وعودة السوق الموازية (السوق السوداء) مجددا بسعر صرف أعلى من الأسعار الحالية.
أما حركة النقد الأجنبي عبر ميزان المدفوعات، فثمة تحد أمامها، يتمثل في ضعف أداء الصادرات السلعية، وكذلك باقي موارد النقد الأجنبي بمصر، ويبقى الجديد هو التأثير السلبي بسبب تراجع عوائد قناة السويس وإيرادات قطاع السياحة إلى خلفية ما يشهده مضيق باب المندب من تراجع حركة السفن جرّاء هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر وما تلاها من تصعيد وتراجعت إيرادات قناة السويس بنحو 45%، خلال شهري ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني الماضيين، وفق تصريحات رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع.
ومن غير المرجّح أن تنتهي اضطرابات البحر الأحمر في الأجل القصير، وبالتالي قد يستمر الضغط على إيرادات القناة وقطاع السياحة، خلال عام 2024 على الأقل، وهو ما يجعل التدفقات الدولارية لمصر خلال العام الجاري أقل مما كانت عليه قبل عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مما يعني أن أزمة النقد الأجنبي ستستمر، وأن الجنيه المصري سيشهد أزمة انخفاض قيمته خلال الفترة المقبلة.
وتراجعت الواردات السلعية غير البترولية لمصر خلال العام المالي 2022-2023 إلى 57 مليار دولار، بعد أن كانت في حدود 73 مليار دولار، وفي بيانات ميزان المدفوعات المصري.
ويعود هذا التراجع إلى القيود التي فرضتها الحكومة على حركة الاستيراد بسبب أزمة عدم توفر النقد الأجنبي، وقد أدى ذلك إلى معاناة القطاع الخاص غير النفطي في مصر من حالة ركود تمتد لشهور متتالية.
وإذا تم رفع القيود، فمن المرجّح أن تقفز قيمة الواردات السلعية غير النفطية مرة أخرى، وتشكل زيادة كبيرة على الطلب على الدولار، ويبقى السؤال هل ستسمح التدفقات الإماراتية الخاصة بصفقة "رأس الحكمة" بتغطية هذه الفجوة؟
وتعاني مصر ضغوطا تتعلق بالتزاماتها خلال عام 2024 في ما يخص سداد أعباء الدين العام الخارجي بنحو 42 مليار دولار، وبالتالي ستُتَخطّف عائدات صفقة رأس الحكمة بين التزامات الدين الخارجي ومتطلبات الاستيراد، ومحاولة تعويض العجز في إيرادات قناة السويس وقطاع السياحة، بل وفي احتياجات الأفراد لأغراض السفر، إذ عانوا كثيرا خلال الفترة الماضية.
قرض صندوق النقد
إذا كانت صفقة "رأس الحكمة" ستقدم لمصر تدفقات عاجلة من النقد الأجنبي، فإن طبيعة التسهيلات الائتمانية التي يقدمها صندوق النقد تختلف من حيث طريقة دفعها، فهي تدفع على شرائح خلال فترة الاتفاق، التي قد تمتد إلى نحو 3 سنوات.
وإذا كانت بعض التقديرات تذهب إلى أن قيمة قرض صندوق النقد لمصر قد تصل إلى 10 مليارات دولار، فإنها ستمثل دفعات تخفف من وطأة أزمة النقد الأجنبي لمصر، وقد تساعد في تحسن الحالة النفسية تجاه سعر صرف الجنيه، ولكن ذلك سيكون لفترة مؤقتة.
وعلى غرار آلية التعامل مع صندوق النقد الدولي، تأتي وعود الاتحاد الأوروبي ووزارة الخزانة الأميركية، فكلاهما يقدم دعما مرتبطا بمشروعات، وفي أحسن الأحوال إذا قدم دعما للخزانة العامة بمصر، فلن يتعدى بضعة ملايين من الدولارات، ومن هنا يتوقع أن تستمر أزمة النقد الأجنبي في مصر خلال الفترة القادمة، ما لم تحل أزمة الدين الخارجي.
لن يصلح وضع مصر في ما يتعلق بالنقد الأجنبي إلا بإسقاط نحو 100 مليار دولار، لكي تتمكن من إعادة رسم سياساتها الاقتصادية
فرضية إسقاط الديون
تخلصت مصر في غير مرة من أزماتها المالية عبر بوابة الخارج، وبخاصة تلك المتعلقة بدور سياسي وعسكري لمصر، كما حدث في حرب الخليج الأولى عام 1990، إذ دفعت مصر بقوات برية للمشاركة في تحرير الكويت مع قوات التحالف الدولي، وهو ما أتاح لمصر الوصول لاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإسقاط جزء من ديونها الخارجية.
ويظهر السؤال عن علاقة الحرب الإسرائيلية واستضافة مصر لاجئين من غزة بالحصول على قرض صندوق النقد الدولي، وإسقاط جزء من الديون خاصة بعدما ربط تصريح للمتحدثة باسم صندوق النقد الدولي جولي كوزاك الأسبوع الماضي الأمرين معا.
إذا حدث هذا، فلن يصلح وضع مصر في ما يتعلق بالنقد الأجنبي إلا بإسقاط نحو 100 مليار دولار، لكي تتمكن من إعادة رسم سياساتها الاقتصادية بوضع يسمح بالخروج من الأزمة.
وإسقاط مثل هذا المبلغ من ديون مصر الخارجية سيمكنها من الخروج من معضلة الديون القصيرة الأجل، التي أربكت سياستها التمويلية، على مدار السنوات العشر الماضية.
في المقابل، إذا لم تتمكن مصر من الوصول لإسقاط شريحة معتبرة من ديونها الخارجية، فإن جميع صور الدعم والمساندة ستكون مثل مسكنات، ولن تغير من واقع تراجع قيمة الجنيه المصري بشيء.
أزمة ثقة
وتظل أدوات الحكومة المصرية للخروج من أزمتها التمويلية، وتحسين سعر صرف الجنيه المصري، رهن استعادة الثقة لدى طالبي الدولار من الجهاز المصرفي، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات.
وقد تحصل مصر على قرض صندوق النقد الدولي، ودعم من الاتحاد الأوروبي ووزارة الخزانة الأميركية، ومساعدات أو دعم من دول خليجية أخرى، لكن ربما لا يجدي ذلك بشيء بشأن تحسن سعر صرف الجنيه، إذا ذهب الأفراد للبنوك للحصول على الدولار ولم يجدوه.
وستكون السوق الموازية في هذه الحالة هي المخرج أمام طالبي الحصول على الدولار، وستظل مصر تعاني تراجع تحويلات العاملين بالخارج، بسبب وجود هذه السوق التي تغذي الطلب الذي تعجز الحكومة عن إشباعه.
وتبقى حقيقة أن سعر صرف الجنيه، وتعرضه لمزيد من الانخفاضات المتتالية في قيمته، مرتبط بضعف أداء الاقتصاد المصري بشكل عام، وفي الجوانب الإنتاجية بشكل خاص.