حديث الإنجازات
وهم الإنجازات
مؤشرات التراجع الاقتصادي
مستقبل مبهم
استقبل المصريون خطابا شديد التفاؤل حول أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية عقب الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، ووعدوا بالخروج من ضيق العيش إلى سعة الرخاء الاقتصادي خلال عامين، ومضى العام الأول تحت ستار المرحلة الانتقالية، وتولى عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر، لتُختبر مقولاته التبشيرية التي صدرها للمجتمع المصري حول البنية الأساسية ومكانة مصر الاقتصادية وتدفق الاستثمارات.
ومضى عامان على ولاية السيسي، ليفاجأ المصريون بأنهم مطالبون بدفع فواتير تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كان أولها تخفيض الدعم بالموازنة المصرية على الوقود والسلع الغذائية وبنود أخرى بنحو 51 مليار جنيه (5.7 مليارات دولار) في موازنة 2014-2015، مما ترتب عليه ارتفاع أسعار وقود السيارات، والغاز الطبيعي بالمنازل والمصانع والأنشطة التجارية، وارتفعت كذلك رسوم استهلاك المياه. ثم جاءت دعوة المصريين للتبرع في حساب "تحيا مصر" الذي حوّل إلى صندوق فيما بعد. وكانت آخر دعوات التبرع من قبل السيسي نفسه حملة "صبح على مصر بجنيه".
ورغم هذا الأداء السلبي تتبنى الحكومة المصرية والسيسي نفسه خطابا يتسم بتحقيق إنجازات، وأنه يواجه تحديات عصر مبارك الذي امتد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. وفيما يلي نتناول تقويم أداء الاقتصاد المصري من بداية تولي السيسي السلطة في مثل هذه الفترة من عام 2014 وحتى الآن.
تتحدث التقارير الاقتصادية المصرية، وبخاصة تلك الصادرة عن وزارتي التخطيط والمالية، عن تحسن في الناتج المحلي الإجمالي، ليرتفع معدل نموه من 2.2% بنهاية عام 2012-2013 إلى 4.2%ك معدل متوقع بنهاية يونيو/حزيران 2016. وتقول التقارير إن هذا الارتفاع حّسن من أوضاع البطالة فانخفضت معدلاتها من 13.3% بنهاية 2012-2013 إلى 12.7% خلال الأشهر الأولى من العام الجاري.
وتتم الإشارة إلى ما حدث من انخفاض في عجز الموازنة، حيث يتوقع أن يصل العجز بنهاية 2015-2016 إلى 11.5%، بعد أن كان 13.8% في نهاية 2012-2013، وما تم تطبيقه بشأن الحدين الأدنى والأقصى لدخل العاملين بالحكومة والقطاع العام.
وتبنى السيسي منذ أن خاض تجربة الانتخابات الرئاسية التبشير بتنفيذ مشروعات قومية كبرى قال إنها يمكن أن تنتشل مصر من كبوتها الاقتصادية وتضعها في مصاف الدول الناهضة اقتصاديا. وكانت أولى مشروعاته الاقتصادية توسعة قناة السويس، ثم تبع ذلك مجموعة من المشروعات أعلن عنها في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في مارس/آذار 2015، لتضم مشروع إنجاز مليون وحدة سكنية لمحدودي الدخل، والعاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع استصلاح 1.5 مليون فدان، ومشروع تطوير إقليم قناة السويس وتحويل منطقة القناة إلى مركز لوجستي عالمي، وإقامة منطقة اقتصادية حرة على ضفاف القناة.
حديث الأرقام عن التطور في الناتج المحلي الإجمالي يكذبه الواقع من حيث استمرار أزمة البطالة كما هي، واتساع رقعة العمالة غير الرسمية، وكذلك تراجع الصادرات وزيادة الواردات. فحسب بيانات وزارة المالية المصرية تراجعت الصادرات السلعية من 26.9 مليار دولار نهاية يونيو/حزيران 2013 إلى 22.2 مليارا بنهاية يونيو/حزيران 2015.
وفي إطار المتاح من بيانات عن 2015-2016، تبين تراجع الصادرات السلعية في النصف الأول من العام إلى 9.1 مليارات دولار، مقارنة مع 12.3 مليارا خلال الفترة نفسها من العام السابق. وفي الوقت نفسه زادت الواردات السلعية من 57.1 مليار دولار في يونيو/حزيران 2013 إلى 61.3 مليارا في يونيو/حزيران 2015. ولو كانت الزيادة في الناتج المحلي حقيقية لكان لها مردود في زيادة الصادرات وتراجع الواردات.
ويظل الحديث عن تحسن الناتج المحلي الإجمالي عبئا على الاقتصاد المصري في ضوء تواضع المدخرات المحلية عند نسبة 5.9% من الناتج، أي أن ما تحقق من زيادة في الناتج تم تمويله بالديون، وهو ما سيظهر عند تناولنا لتفاقم أزمة المديونية.
والحديث عن تراجع العجز في الموازنة العامة ليصل إلى 11.5% مقابل 13.8% في نهاية يونيو/حزيران 2013، يحتاج إلى بيان حجم ما حصلت عليه حكومات ما بعد الانقلاب من معونات خارجية. فالبيان التحليلي لموازنة 2016-2017 يظهر (في صفحة 26) أن المنح من الحكومات الأجنبية بلغت 95.4 مليار جنيه (10.7 مليارات دولار) في 2013-2014، و24.9 مليار جنيه (2.8 مليار دولار) في 2014-2015، كما تم تسييل وديعة حكومية عام 2013-2014 بمبلغ عشرة مليارات دولار، فضلا عن تفاقم الديون محليا وخارجيا.
فبعد حالة التفاؤل التي رُوج لها بعد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في مارس/آذار 2015، تراجعت الشركات الإماراتية التي أُعلن عن تنفيذها لمشروعي المليون وحدة سكنية والعاصمة الجديدة بسبب التمويل، حيث كانت هذه الشركات تخطط للحصول عليه من البنوك المصرية، بينما حكومة السيسي كانت تأمل تدفقا جديدا للتمويل الأجنبي، وبالتالي خرج مشروعان كبيران من خارطة الوعود الاقتصادية للسيسي.
أما مشروع توسعة قناة السويس فحقق مجموعة من السلبيات التمويلية من حيث التكلفة والعائد وسحب السيولة من البنوك والسوق المصري، نظرا لاعتماد المشروع على مشاركة كبيرة من الشركات الأجنبية.
وحسب البيانات الرسمية لهيئة القناة، تراجعت إيرادات قناة السويس بنهاية العام 2015 بنحو 290 مليون دولار مقارنة بإيرادات 2014. وعرضت الهيئة تخفيضات على المرور للسفن العابرة خلال الشهور الماضية تصل إلى 50% لتعويض التراجع في إيراداتها. وبحسابات الفرصة البديلة، فإن سحب 60 مليار جنيه (6.7 مليارات دولار) ووضعها في توسعة القناة ضيع فرصة استثمار هذه الأموال في مشروعات إنتاجية بمجالي الصناعة والزراعة، كانت جديرة بخلق فرص عمل حقيقية ومستقرة، فضلا عن تحسين هيكل الناتج المحلي، والتخفيف من العجز بالميزان التجاري.
بلغ الدين العام المحلي لمصر في مارس/آذار 2016 نحو 2.49 تريليون جنيه (280 مليار دولار) ، مقارنة بـ1.81 تريليون جنيه (203.8 مليارات دولار) في يونيو/حزيران 2014، و1.52 تريليون في يونيو/حزيران 2013، وهو ما يعني أن الدين العام المحلي شهد ارتفاعا بلغ 680 مليار جنيه خلال عامي السيسي، ونحو 970 مليار جنيه منذ انقلاب 2013.
أما الدين الخارجي لمصر فقفز إلى 53.4 مليار دولار بنهاية مارس/آذار 2016، مقارنة مع 46 مليارا في يونيو/حزيران 2014، بزيادة قدرها 7.4 مليارات خلال عامي السيسي، ونحو 10.2 مليارات منذ انقلاب 2013.
وتتحمل الموازنة العامة للدولة أعباء فوائد الديون المحلية والخارجية بنحو 295 مليار جنيه في موازنة 2016-2017، وبما يزيد عن مخصصات الأجور والصحة للعام المالي نفسه، وبما يزيد بضعفين ونصف عن مخصصات الاستثمارات العامة البالغة 107 مليارات جنيه.
بلغ احتياطي النقد الأجنبي 17.5 مليار دولار في نهاية مايو/أيار 2016، بما يعادل واردات مصر لأقل من ثلاثة أشهر. وحقيقة الموارد الذاتية بهذا الاحتياطي صفر، بل انكشف المركز المالي للبنك المركزي بنحو 375 مليون دولار فيما يتعلق بصافي الأصول الأجنبية مع نهاية العام 2015. ويعد مبلغ الـ17.5 مليار دولار عبارة عن ودائع لكل من ليبيا وتركيا والسعودية والإمارات والكويت، وتعد 10 مليارات من هذا المبلغ في حكم القرض لأنها مربوطة كودائع بسعر فائدة 2.5%. وبالتالي فحقيقة الأمر أن مصر لا تمتلك احتياطيا ذاتيا من النقد الأجنبي، وهو ما ساهم بقوة في انهيار سعر صرف الجنيه المصري.
في ظل تراجع أداء الاقتصاد المصري وزيادة الاعتماد على الخارج، انخفضت قيمة الجنيه بشكل ملحوظ منذ الانقلاب العسكري وخلال فترة عامي السيسي، فبلغ سعر صرف الدولار في السوق الموازية 11.20 جنيها، بينما بلغ في السوق الرسمية 8.8 جنيهات، مع عجز لدى الجهاز المصرفي في توفير الدولار وباقي العملات الأجنبية في ضوء الأسعار الرسمية المعلنة. ويشهد الاقتصاد المصري ظاهرة دولرة قوية، في ظل المضاربات في السوق السوداء، وارتفاع معدلات التضخم.
ظلت تحويلات العاملين بالخارج سندا للاقتصاد المصري بشكل كبير حتى نهاية العام 2014-2015، ومع بداية العام الثاني للسيسي شهد هذا المورد تراجعا ملحوظا. فخلال النصف الأول من عام 2015-2016 تظهر بيانات ميزان المدفوعات وجود تراجع بنحو 1.1 مليار دولار، مرشح للتضاعف بنهاية يونيو/حزيران 2016 بسبب التداعيات الاقتصادية السلبية في الخليج، والتي على إثرها تم تخفيض مرتبات العمالة الأجنبية وتسريح بعضها. وقد نالت العمالة المصرية نصيبا من هذه الإجراءات، لذلك سيظهر أثرها السلبي بشكل أكبر خلال المرحلة المقبلة.
إثر أداء خادع من تحقيق فائض في ميزان المدفوعات المصري بعد انقلاب 2013 بسبب المنح والمساعدات الأجنبية، ظهر العجز في ميزان المدفوعات مرة أخرى، حيث بلغ 3.4 مليارات دولار خلال النصف الأول من عام 2015-2016، وهو مرشح ليزيد بمعدلات أكبر في ظل تراجع المنح والمساعدات الدولية، واستمرار العجز بالميزان التجاري.
بعد أكثر من حادثة في قطاع الطيران، وكذلك حوادث العنف، وبخاصة تجاه السائحين، تأثرت السياحة الوافدة إلى مصر بشكل كبير، وتراجعت بمعدلات تزيد عن 50% من حيث عدد السائحين. وتظهر بيانات ميزان المدفوعات عن النصف الأول من عام 2015-2016 وصول إيرادات السياحة إلى 2.7 مليار دولار، مقارنة بنحو أربعة مليارات دولار في الفترة المقابلة من عام 2014-2015. وتفرض العديد من الدول ووكالات السياحة حظرا على السفر إلى مصر حتى نهاية العام 2016.
بعد التراجع في المؤشرات الاقتصادية السابقة، طبيعي أن يعاني المواطن من أعباء معيشية كبيرة بسبب ارتفاع معدلات التضخم التي تتجاوز 11.5% حسب الأرقام الرسمية، بينما يشير الواقع إلى اقتراب معدلات التضخم من 20%، فضلا عن قلة فرص العمل، واتساع رقعة الفقر، وانتشار ظاهرة الهجرة غير النظامية على نطاق واسع بحيث نالت من الشريحة العمرية للأطفال، حيث وصلت مراكب مصرية منذ شهور إلى شواطئ إيطاليا محملة بـ560 طفلا دون سن الـ18، وبعضهم في سن الـ11.
من أكبر السلبيات الاقتصادية التي منيت بها مصر في عهد السيسي، ارتفاع تكاليف الإنتاج بقطاعي الصناعة والزراعة بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة، وكذلك ارتفاع تكلفة التمويل، مما أدى إلى تراجع منافسة القطاعات الإنتاجية المصرية في الداخل والخارج، بل وتوقف بعض المصانع لعدم جدوى الإنتاج اقتصاديا، أو عدم توفير الطاقة اللازمة كما حدث في بعض مصانع الحديد.
رغم إعلان مصر عن رؤيتها المستقبلية حتى عام 2030 فإن الواقع يرسم خريطة ضبابية، نظرا لتراكم المشكلات الاقتصادية، وشعور المواطن بعدم الثقة، واستمرار تراجع الخدمات بشكل دائم وبخاصة في مناطق الصعيد والعشوائيات، وانتشار الفساد، وغياب العدالة الاجتماعية، والاعتداء على سيادة القانون، وتفشي الفساد بصورة أكبر، خاصة بعد خوض نظام السيسي ما يمكن تسميته تصفية حسابات مع بعض رؤساء الأجهزة الرقابية، كما حدث مع رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينة، وكذلك سيطرة الجيش على مقدرات الحياة الاقتصادية.