قضية الدعم في مصر من القضايا الشائكة، يتم تناولها عادة في ضوء ما تتخذه الحكومة من قرارات تتعلق بخفضه، مما يؤدي إلى رفع سعر السلع والخدمات، ولكن الدعم ليس بدعًا في العديد من الاقتصاديات، حتى المتقدمة منها، فالدعم يعالج أوضاع اجتماعية مهمة، وليس من الحكمة الغاؤه بالكلية بحجة أن بعض الأغنياء يستفيدون منه.
فعلى سبيل المثال لازالت أمريكا والاتحاد الأوروبي يقدمان دعمًا للقطاع الزراعي فيهما، على الرغم من تعهدهما بإلغائه تدريجيًا عند الإعلان عن قيام منظمة التجارة العالمية في يناير 1995. ولكن هذا التعهد لم يدخل حيز التنفيذ على الرغم من مرور ما يزيد على عقدين من الزمن، بحجة تعلنها كل من أمريكا والاتحاد الأوروبي، وهي أن إلغاء الدعم سوف يؤدي إلى آثار اجتماعية سلبية على الفلاحين والعاملين بالقطاع الزراعي 1.
ويأتي قرار تخفيض دعم الوقود ومن قبل تخفيض دعم الكهرباء ومياه الشرب، في وسط أجواء غير مناسبة على الصعيد الاقتصادي في مصر، حيث لا تزال الأجور دون تغير يذكر، وسوف يترتب على تخفيض دعم الوقود، زيادة كبيرة في أسعار السلع والخدمات، وكان أول رد فعل من قبل الحكومة هو زيادة أسعار النقل العام ما بين 10% و20%2 ، فضلًا عن أن بعض المحليات حددت الزيادة في أسعار وسائل المواصلات بنحو 25%.
ولا تغيب دلالة تخفيض قيمة دعم الوقود عن الارتباط باتفاق صندوق النقد الدولي الداعي لإلغاء دعم الوقود بالكلية، وقد صرح محمد معيط وزير المالية مؤخرًا بأن مصر سوف تستلم الشريحة الرابعة من قرض الصندوق قبل نهاية يوليو المقبل بنحو 2 مليار دولار. ومن المؤسف أن توظيف هذه القروض ليس له أي دلالات تنموية، حيث أضاف وزير المالية بأن الـ 2 مليار دولار، سوف يستخدم جزء منها في دعم الموازنة، والباقي في دعم الاحتياطي من النقد الأجنبي3 .
وسوف تستمر موجة ارتفاع الأسعار في العديد من السلع والخدمات بمصر على مدار الشهور الست القادمة، وبعد أن انخفاض معدل التضخم حسب الأرقام الحكومية بحدود 12% في نهاية مايو 2018، سوف يتخذ معدل التضخم اتجاهًا صعوديًا يتجاوز الـ 20% خلال الشهور الستة القادمة، أي مع نهاية 2018.
إلا أن حكومات الانقلاب العسكري بررت قراراتها المتعددة بتخفيض الدعم بأنه يعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية4 ، بحيث لا يستفيد منه الأغنياء، أو أن هذا التخفيض سوف يكون له مردود إيجابي على الموازنة العامة للدولة، بسبب أن بقاء الدعم على ما هو عليه، سيزيد من حجم المديونية العامة للدولة5 ، وبالتالي زيادة الأعباء المترتبة من فوائد وأقساط.
ونناقش تلك الحجج من واقع الأرقام والاحصاءات الرسمية للحكومة المصرية، بل ومن واقع بيانات البيانين المالي والتحليلي للموازنات المصرية في الأعوام الماضية، وكذلك موازنة العام المالي 2018/2019.
حسب تصريحات المسئولين الحكوميين بمصر، وبخاصة ما صدر عن الوزراء، فإن تخفيض الدعم له أثر إيجابي على الموازنة، ولكن علينا أن نقرأ أرقام الموازنة منذ العام المالي 2014/2015، والذي أعلنت فيه حكومة الانقلاب موقفها من الدعم، واتخذت أولى خطوات تخفيضه، ونرى الأثر المالي، هل كان إيجابيًا أم سلبيًا.
1- انخفاض الدعم وزيادة الديون وأعبائها
جاء في ص 86 من البيان المالي لموازنة عام 2014/2015 “فـإن الحكومـة تتجـه نحـو خفـض دعـم الطاقة والتخارج منه على مـدى ٣-٥ سـنوات مـع إعطـاء الحمايـة اللازمة للفقراء ومحدودي الـدخل وأبنـاء الطبقـة المتوسـطة بتـدرج مناسب” 6، وبالفعل اتخذت الحكومة أولى خطوات تخفيض دعم الوقود مطلع يوليو 2014، مما أدى إلى زيادة في أسعار الوقود بنسبة تجاوزت 75% 7.
إلا أن أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية منذ منتصف 2014، ساعد الحكومة في تأجيل استكمال سياستها في رفع الدعم عن الوقود خلال 3 سنوات، ولم تكن الحكومة قد دخلت في اتفاقها مع صندوق النقد بعد في ذلك التاريخ.
واستمر تخفيض دعم الوقود في 2016، 2017، ومؤخرًا في يونيو 2018. فماذا عن الوضع المالي لمصر من خلال بيانات موازناتها.
نلاحظ أن مخصصات دعم الوقود في السنوات 2014 – 2018 شهدت تخفيضًا من 130 مليار جنيه في 2013/2014 – 89 مليار جنيه في 2018/2019، مع الأخذ في الاعتبار أن دعم الوقود كان في أقل تقديراته في عام 2015/2016 بسبب انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية، حيث بلغ دعم الوقود الفعلي في ذلك العام 51 مليار جنيه.
بينما أدى انخفاض سعر صرف الجنيه المصري في نهاية 2016 إلى رفع قيمة دعم الوقود بالموازنة مرة أخرى في عام 2016/2017 ليصل إلى 115 مليار جنيه، ولكن سبب رفع دعم الوقود هنا ليس زيادة في المخصصات، ولكنه يرجع لانخفاض سعر صرف الجنيه بنحو 100%، وانخفض ذلك الدعم إلى 110 مليار جنيه في 2017/2018، ثم التخفيض الأخير في موازنة 2018/2019، حيث تستهدف الموازنة أن يكون دعم الوقود بحدود 89 مليار جنيه8 .
والمفترض حسبما يصرح به المسئولون الحكوميون أن يؤدي تخفيض مخصصات الدعم من أعباء الموازنة العامة، وبخاصة في قيمة الديون وفوائدها، ولكن نفس المصدر الذي حصلنا منه على بيانات مخصصات دعم الوقود، يفيد بأن أعباء الفوائد خلال الفترة 2014 – 2018 قفزت من 193 مليار جنيه في عام 2014/2015 إلى 541 مليار جنيه في عام 2018/20199 . هذا فضلًا عن أن قيمة الدين ذاته قفزت كذلك من 46 مليار دولار للدين الخارجي في 2014 إلى 82 مليار دولار بنهاية 2017، والدين المحلي قفز من 1.8 تريليون جنيه في 2014 إلى 3.16 تريليون في نهاية يوليو 201710 .
2- انخفاض الدعم يقابله زيادة في الضرائب
مع انخفاض مخصصات الدعم خلال الفترة 2018 – 2018، كما ذكرنا سابقًا، نجد أن هذا الانخفاض لم يؤد إلى تخفيف الأعباء عن المواطنين، بل قابله كذلك رفع قيمة الضرائب، وفرض ضرائب ورسوم جديدة، مما أدى إلى أن ترتفع إيرادات الضرائب خلال نفس فترة المقارنة من 305.9 مليار جنيه في 2014/2015 إلى 770 مليار جنيه في 2018/201911 ، أي أن الضرائب تضاعفت لأكثر من 100%، وهو ما يعني أن هناك موارد توفرت للدولة، كان يمكن الاستفادة منها في تخفيف وطأة تخفيض مخصصات دعم الوقود وغيرها من أنواع الدعم.
3- تخفيض الوقود وتحقيق العدالة الاجتماعية
من المقولات المغلوطة التي يسوقها وزراء ومسئولو حكومات الانقلاب العسكري، أن الأغنياء يستفيدون من الدعم أكثر من الفقراء ولذلك تتجه الحكومة إلى إلغائه تحقيقًا للعدالة الاجتماعية، وتصرف الحكومات المصرية المتعاقبة حتى ما قبل ثورة 25 يناير يستهدف حلول غير منطقية، تتفق ومبدأ التخلص من المسئولية، بغض النظر عن التبعات الاقتصادية والاجتماعية السلبية المترتبة على هذا السلوك، فبحجة فساد القطاع العام، تم بيع شركاته ومؤسسات، وبخاصة الرابح منها، وضيعت فرص الاستفادة من هذه الشركات والمؤسسات في دعم التنمية، وتحقيق توازن في السوق، ومواجهة احتكار القطاع الخاص.
فاستفادة الأغنياء من الدعم لا تعني حرمان الفقراء منه، وبخاصة أن برامج الحماية الاجتماعية شديدة الضآلة ولا تفي بمتطلبات شريحة كبيرة من المجتمع تضررت من الإجراءات الاقتصادية التي فرضها اتفاق صندوق النقد الدولي. إن الحل الأمثل الذي كان يناسب الفقراء في مصر، ومن انضم إليهم من الطبقة المتوسطة مؤخرًا، وبخاصة بعد انقلاب يوليو 2013، هو أن تعمل الحكومة على توفير قاعدة بيانات قوية ومرنة، تغطي كافة شرائح المجتمع، ويتم الانتقال من الدعم العيني إلى الدعم النقدي، وبذلك يستمر الدعم، ولا يستفيد منه الأغنياء. وفي نفس الوقت يتم التخلص من فساد الدعم العيني الذي يبدأ من كبار المسئولين والوزراء، ومرورًا بالوسطاء والتجار الكبار، وانتهاء بموزعي الدعم وتجار السلع المدعومة.
إن الحكومة لا تسعى لوجود قاعدة بيانات للدعم، على الرغم من امتلاكها جزء كبير من بياناتها عبر قاعدة بيانات الرقم القومي، والتي تفعل بشكل كبير على الصعيد الأمني، فلماذا لا يستفاد منها في منظومة الدعم لخدمة الفقراء، وتخفيف معاناتهم في ظل حزمة الإجراءات الاقتصادية، التي لها هدف وحيد وهو الوفاء بمتطلبات صندوق النقد الدولي، وتسهيل حصولها على الاقتراض الخارجي، ولكنها لا تعبئ بتطوير الإنتاج أو الاعتماد على الذات، أو امتلاك مشروع للتنمية.
4- تخفيض الدعم والانفاق على التعليم والصحة
بيانات وزارة المالية تفيد أن مخصصات قطاع الصحة ارتفعت من 37.2 مليار جنيه في 2014/2015 إلى 61.8 مليار جنيه، وكذلك قطاع التعليم ارتفعت مخصصاته خلال نفس الفترة من 92 مليار جنيه إلى 115 مليار جنيه12 . أي أن الزيادة في مخصصات قطاع الصحة بلغت نحو 24 مليار جنيه تقريبًا خلال الفترة، وفي قطاع التعليم بلغت الزيادة بحدود 23 مليار جنيه، وإجمالي الزيادة للقطاعين خلال الفترة نحو 47 مليار جنيه، بينما تخفيض قيمة الدعم بلغ 41 مليار جنيه خلال نفس الفترة أيضًا، حيث كان في 2013/2014 قيمته 130 مليار جنيه ووصل في 2018/2019 إلى 89 مليار جنيه. هذا بفرض أن ما تم تخفيضه من دعم الوقود تم توجيه بالكامل لقطاعي الصحة والتعليم، وإذا كان الأمر كذلك فلما تضاعف الدين العام بمكونيه (المحلي + والخارجي) ولماذا زادات عوائد الضرائب لأكثر من 100% خلال نفس الفترة.
5- تخفيض الدعم وعجز الموازنة
من الطبيعي في ظل اقتصاد يعتمد على الريعية، ولا يملك مشروع للتنمية الذاتية، أن يكون لديه عجز في الموازنة بشكل دائم، فمصر تستورد العدد والآلات، وتستورد مستلزمات الإنتاج، والسلع الاستهلاكية والترفية، وبالتالي فليس للموازنة موارد أصيلة يمكن الاعتماد عليها وتنميتها، لتسد الفجوة بين المصروفات والإيرادات.
نعم هناك تراجع في نسبة العجز الكلي إلى الناتج المحلي الإجمالي، ولكن استكمالًا لهذه الحقيقة أيضًا أم قيمة العجز لم تعرف التراجع، فهي في زيادة مستمرة، فبعد أن كانت قيمة العجز 279.4 مليار جنيه في عام 2014/2015، قفز العجز الكلي في موازنة 2018/2019 إلى 438.5 مليار جنيه13 . أي أن العجز الكلي بالموازنة شهد زيادة قدرها 159.1 مليار جنيه تقريبًا، والمفترض في ضوء تصريحات مسئولو حكومات الانقلاب العسكري أن يؤدي انخفاض الدعم إلى انخفاض العجز، أي أن العجز كان يفترض أن يكون أقل مما كان عليه في 2014/2015، لينخفض عن 279.4 مليار جنيه، ولكن الواقع غير ذلك.
حسب تصريحات وزير البترول طارق الملا، فإن مصر توفر 70% من احتياجاتها من الوقود عبر مواردها المحلية، وتقوم باستيراد 30%14 ، ولكن الحكومة تعتمد في حساباتها لقيمة الدعم للوقود، على اعتبار الأسعار العالمية، وكأنها تقوم باستيراد كامل احتياجاتها من الوقود. ومن هنا نجد ارتفاع مخصصات دعم الوقود منذ عام 2006، حيث تم الاخذ بتوجهات صندوق النقد الدولي في هذا الشأن.
ما هو المنطق في أن يعامل شعب في استهلاك موارده المحلية في ضوء الأسعار العالمية، أليس من حقه أن يستمتع بموارده، وأن يشعر أن لديه ميزه أفضل من الأجنبي، وأن موارده تساعده على مستوى معيشي أفضل. إن الحكومة ترى أن توظف الموارد المحلية في التضييق على مستوى معيشة الناس، وحتى لو سلمنا بصحة هذا المنطق المعوج، فإن حسابات الأسعار العالمية ينبغي أن تكون في حدود الكميات المستوردة بالفعل، وهي 30% من متطلبات الوقود في مصر. ولكن على ما يبدو أن هناك مغالطة فيما يسمى الموارد المحلية، وبخاصة بعد تعاقدات حكومات الانقلاب العسكري مع الشركات الأجنبية العاملة في مجال النفط والغاز، حيث تم التنازل عن ملكية حقول بكاملها لصالح الشركة البريطانية، نظير أن تشترى مصر منتجات هذه الحقول، وبالتالي نحتاج إلى إعادة تعريف الموارد المحلية، فالغاز الطبيعي الذي تنتجه الشركة البريطانية للغاز من حقول غرب الدلتا، ليس من موارد مصر المحلية، لأنها يباع إلينا من خلال شركة أجنبية، وكذلك حصص الشريك الأجنبي في حقوق غاز ظهر وغيرها.
إن الحكومة لم تسع لامتلاك منظومة لإدارة الطاقة، على الرغم من الإعلان عن برامج ومشروعات للاستثمار في الطاقة النظيفة، أو ترشيد الاستهلاك من الطاقة، فلا زالت الحكومة المصرية تعتمد في تدبير احتياجات الاقتصاد المصري من الطاقة على المصادر التقليدية (النفط والغاز)، وحتى في ظل الإعلان المتكرر عن زيادة إنتاج الحقول المصرية من الغاز الطبيعي لم يلاحظ أي أثر لهذه الزيادة على المواطن المصري، لا في الموارد العامة للموازنة، ولا في رفع مستوى معيشة المواطن. ولقد مورست على مصر ضغوط سياسية من خلال الدول الخليجية خلال الفترة الماضية بسبب اعتماد مصر على استيراد جزء كبير من احتياجاتها من الوقود من السعودية ومن الإمارات، ولعل عام 2017 خير دليل على ممارسات السعودية تجاه مصر، ووقفها امدادات النفط، ولولا توجيهات ترامب قبل زيارته للرياض في مايو 2017، بعودة العلاقات المصرية السعودية لما كانت عليها، لعادت مصر بقوة إلى مكابدة أزمة حادة في الطاقة.
ختاماً:
كما عهدنا حكومة الانقلاب العسكري وما سبقها من حكومات مبارك، اتخاذ خطوات غير محسوبة العواقب، يدفع المجتمع ثمنها غاليًا من تخلف ومرض وفقر وجهل، وهدم للإنسان، وتكريس لروح اليأس لدى شرائح كبيرة من الشباب تزداد جيلًا بعد جيل، وانتظروا مزيد من التضخم بسبب قرارات خفض دعم الوقود (15 ).
الهامش
1 د سمير أمين، دعم الزراعة فى العالم المعاصر، الاهرام، 3/2/2015.
2 مصر: رفع أسعار تعرفة ركوب السيارة 20%، العربي الجديد، 16/6/2018
3 وزير المالية: مصر تتسلم ملياري دولار من صندوق النقد قبل نهاية يوليو، مصراوي، 18/6/2018
4 بعد زيادة اليوم.. البترول: 9 أسباب دفعتنا لرفع أسعار الوقود، مصراوي، 16/6/2018
5 وزير المالية: دعم الوقود كان سيرتفع إلى الضعف لولا زيادة الأسعار، مصراوي، 16/6/2018
6 وزارة المالية المصرية، البيان المالي لموازنة 2014/2015، ص 86.
7 الحكومة المصرية ترفع أسعار الوقود بنسبة تقترب من الضعف، الرابط
8 وزارة المالية المصرية، البيان التحليلي لموازنة 2018/2019، ص 42.
9 المصدر السابق، ص 41.
10 البنك المركزي المصري، النشرة الاحصائية الشهرية، مارس 2018، ص 95 وص 109.
11 البيان التحليلي، مصدر سابق، ص 20.
12 البيان التحليلي، مصدر سابق، ص 95.
13 البيان التحليلي، مصدر سابق، ص 19.
14 بعد زيادة اليوم.. البترول: 9 أسباب دفعتنا لرفع أسعار الوقود، مصراوي، 16/6/2018.