الاقتصاد هو معاش الناس، يخشون الفقر ويأملون الستر والغني، فصعود وهبوط المؤشرات الاقتصادية الكلية، من سعر الفائدة أو قيمة العملة أو معدل التضخم، وغير ذلك، يواجههما الناس بأمل أن يتما بأقل تكلفة.
ومنذ عامين والناس في مصر، يعيشون وضعا، شديد التأثير على حياتهم بشكل سلبي، وبخاصة في ارتفاع الأسعار، بينما مستوى رواتبهم وأجورهم يتحرك ببطئ شديد لا يناسب ارتفاع الأسعار.
سعر الدولار في السوق السوداء، كان حديث الناس في مصر، فكل شيء رهن سعر الدولار، المدخرون يخشون إهدار مدخراتهم، فاتجهوا لشراء الذهب والعملات الأجنبية، بينما التجار والمستوردون تضرروا بشكل كبير، لقلة النقد الأجنبي من جهة، ولمخاطر التعامل مع السوق السوداء من جهة أخرى.
ولم يكن حال الحكومة بأحسن حال من الأفراد والمؤسسات، فالتزامات الديون الخارجية تطاردها، كما أن العديد من مشروعاتها التي تحتاج إلى مستلزمات تشغيل من الخارج شبه متوقفة، في الوقت الذي تأثرت فيها مواردها من النقد الأجنبي بشكل سلبي بسبب تراجع إيرادات قناة السويس وقطاع السياحة، بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والتوتر في البحر الأحمر.
وفي السادس من الشهر الجاري أقدمت الحكومة المصرية على ما قامت به في أواخر 2016، وكذلك في 2021، من تخفيض قيمة الجنيه، فقفز الدولار في السوق الرسمية، ليلامس سقف 50 جنيها للدولار، كما رفعت سعر الفائدة 6% مرة واحدة.
قبل السادس من مارس/آذار 2024، ارتفع الجنية في السوق السوداء، من 70 جنيها للدولار إلى حدود 40 جنيها، وهو ما جعل الشارع المصري يلح في طلب الإجابة عن سؤال هل تنخفض الأسعار؟
ولكن بعد أن أصبح هناك سعر رسمي للدولار بحدود 50 جنيها، وتم رفع الفائدة، لا يزال السؤال مطروحا، هل ستنخفض الأسعار؟
التجار لديهم مبرر بعدم خفض الأسعار، بحجة أن ما لديهم من سلع، تم شراؤه بتدبير عملة من السوق السوداء عند أسعار ما بين 60 و70 جنيها للدولار، وبالتالي لا يمكنهم البيع بخسارة، وهو ما يجعل الإجراءات الأخيرة بلا فائدة سريعة.
ولكن بعد نفاد تلك المخزونات لدى التجار، هل ستنخفض الأسعار، بعد أن يتعامل التجار مع أسعار الدولار وفق السوق الرسمية؟
سوف يتوقف ذلك على مدى استجابة الجهاز المصرفي لتلبية احتياجات التجار من النقد الأجنبي، فإذا حصلوا على احتياجاتهم بلا شك قد تكون هناك حالة نسبية من تخفيض الأسعار، وتراجع معدلات التضخم، ولكن إذا حُرم التجار من تلبية احتياجاتهم، على الفور سيلجؤون للسوق السوداء، وتشهد مصر المزيد من موجات التضخم.
هناك أمران، فيما يخص المؤسسات، الأول فيما يتعلق برفع سعر الفائدة، بنسبة 6%، فهذا القرار سيكون له أثر سلبي على المؤسسات والتجار الذين يعتمدون على التمويل البنكي، لأن ذلك سيؤدي لرفع تكاليف الإنتاج، وتراجع قدراتهم على المنافسة في السوقين المحلي والدولي.
أما ما يتعلق بتخفيض قيمة الجنيه، فالتجار والمؤسسات، يأملون أن تؤدي الانفراجة التي حدثت من تدفق بعض الموارد الدولارية -من صفقة رأس الحكمة والأموال المنتظر تدفقها من قرض صندوق النقد الدولي– إلى حلحلة في الإفراج عن السلع المكدسة في الموانئ، كما يتمنون أن يتم تلبية احتياجاتهم من النقد الأجنبي والخروج من حالة الركود التي عانوا منها مؤخرا.
ولكن يبقى السؤال، هل ستفي موارد النقد الأجنبي الحالية لكل ذلك؟ وهل ستعود الحالة الطبيعية للتعامل على النقد الأجنبي من خلال السوق الرسمية؟ هذا ما سيجيب عه الواقع في قادم الأيام.
منذ عدة أسابيع أعلنت الحكومة عن رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6 آلاف جنيه مصري، وهو ما يعادل الآن 120 دولار شهريا.
وهو دخل قد يصلح لشخص بمفرده للحدود الدنيا من متطلبات المعيشة، ولا يصلح لإعاشة أسرة، وهو ما يعني ارتفاع معدلات الفقر خلال الفترة القادمة.
والجدير بالذكر أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تأخر لقرابة عامين في إصدار مسح الدخل والإنفاق للأسرة المصرية، والذي يتضمن نسب الفقر في المجتمع.
وهناك شريحة أخرى، من الأسر الفقيرة، سواء المستفيدين من برامج تكافل وكرامة، أو غير المستفيدين، حيث ستعاني هذه الأسر من الفقر بشكل أكبر، وستنعكس تلك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سلبا على أوضاع تلك الأسر، لحرمانها من خدمات التعليم والصحة والخدمات الأساسية الأخرى في ظل الإجراءات المرتقبة لشروط صندوق النقد.
المضاربون لا يعرفون مغادرة الأسواق، ولكن يجعلون أنفسهم في وضع استعداد لاغتنام الفرص، ويتبين لهم، حقيقة التدفقات النقدية لمصر، ومدى كفايتها للسوق الرسمية، فإذا كانت هناك فجوة يعجز الجهاز المصرفي عن تلبيتها، فسيعود المضاربون مرة أخرى، ليعملوا بشكل رئيس على تحويلات العاملين بالخارج، سواء من داخل مصر أو خارجها.
الجدير بالذكر أن السوق السوداء تستمر حتى في ظل الهوامش القليلة جدا بينها وبين السوق الرسمية، ولكنها تزدهر في وجود فارق كبير.
بنوك قطاع الأعمال العام طرحت شهادات ادخارية بنحو 30%، بينما سعر الفائدة في البنوك للإيداع أصبح 27.25%، ومعدل التضخم المعلن نهاية يناير/كانون الثاني 2024 هو 29.8%، وهو ما يجعل سعر الفائدة في الجهاز الرسمي أقل من معدل التضخم، وبذلك سيبحث الأفراد عن بديل أكثر ربحية، ما قد يوجه للمضاربة في البورصات، أو العقارات، وقد تتراجع المضاربة على الدولار نسبيا إلى أن يستقر السوق.
وهنا لابد أن يستحضر أصحاب المدخرات تجاربهم السابقة مع الحكومة خلال السنوات العشر الماضية، حيث سارعوا إلى شراء الشهادات، أو إيداع أموالهم في البنوك في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، ثم يجدون أنفسهم بعد نحو عام أمام تخفيض أسعار الفائدة، وارتفاع معدلات التضخم بمعدلات تفوق سعر الفائدة بكثير.
على رأس الخاسرين، المضاربون من الأفراد وليس تجار المضاربة، الذين اشتروا الدولار بأسعار أعلى مما هو عليه الآن في السوق الرسمية، ولكن خسارتهم مرتبطة بكيفية التصرف فيما لديهم من عملات أجنبية.
فإذا قاموا ببيع ما لديهم الآن من عملات أجنبية، مخافة أن يشهد السوق أسعارا أقل مما هي عليه الآن، فبلا شك سيمنون بخسائر كبيرة، بينما إذا احتفظوا بما لديهم من نقد أجنبي لفترات طويلة، فستكون خسائرهم محصورة في تعطيل دورة رؤوس الأموال.
أما تجار المضاربة، فهم عادة، لا يكتفون بسوق واحد، وخاصة أن التجارب المصرية منذ سبعينيات القرن الماضي، تحظى بتوفر عدة أسواق للمضاربات، عملات أجنبية، وبورصة الأسهم والسندات، والعقارات، فضلا عن العملات المشفرة.
أيضا هناك الصناعات والخدمات التي تعتمد على مكون خارجي للإنتاج، وستزيد تكلفة فاتورة الاستيراد بشكل كبير، وهو ما سيعود في النهاية على حساب المستهلك للسلعة أو الخدمة، ولكن قد يعمّق هذا الأمر حالة الركود، وخاصة أن ذلك يصاحبه استهداف الحكومة للتضخم، وتقييد حركة النقود.أما الرابحون مما حدث، فهم المدينون، ومن بينهم أو على رأسهم الحكومة، حيث قلت القيمة الحقيقية للديون المستحقة عليهم، فالحكومة مدينة بنحو 7 تريليونات جنيه، كدين محلي، وكذلك الأفراد، أصحاب المديونيات للبنوك أو للأفراد، وخاصة إذا كان لديهم مورد من النقد الأجنبي يجعلهم يحصلون على أسعار أفضل ويسددون ديونهم
هل ستُحسّن الحكومة إدارة الأزمة؟
الانفراجة التي أُعلن عنها في مصر بخصوص النقد الأجنبي، بعد إجراءات السادس من مارس/آذار، ليست بالجديدة، ويخشى أن يعقبها وقوع أزمات تربك أداء الاقتصاد المصري ككل.
وفي العادة تُعلق الحكومة كافة المشكلات على أسباب خارجية، كالأزمات الإقليمية والدولية، أو داخلية تتعلق بالزيادة السكانية أو سلوك الإسراف لدى الأفراد.
والحقيقة أن الأزمات في أصلها تتعلق بسوء الإدارة، وتأخر اتخاذ القرار في الوقت المناسب، وارتفاع معدلات الفساد.
والتحدي الحقيقي أمام الحكومة، خلال المرحلة القادمة، هو أن تمتلك برنامجا لمعالجة حقيقية للمشكلات الاقتصادية والمالية، واتخاذ ما يلزم لضمان عدم تكرارها.