شغلت قضية الهجرة الدول خلال الفترات الماضية بشكل كبير، سواء كانت هذه الهجرة قسرية أم بناء على رغبة المهاجرين، خاصة في ضوء أعباء هذه الهجرة ومردودها على مشاريع التنمية في الدول المضيفة.
ففي فترات معينة -حيث شكلت الهجرة من الجنوب إلى الشمال ومن الدول الفقيرة إلى الدول الغنية ملمحًا مهمًا- تم استدعاء قضية هجرة العقول من الدول الفقيرة، ورسخ ذلك لبقاء هذه الدول في حضن التخلف.
وزاد حضور قضية الهجرة مؤخرًا على الصعيد العالمي، بعد عمليات الهجرة القسرية، بسبب النزاعات المسلحة -خاصة في منطقة الشرق الأوسط- أو بسبب الهاجس الديمغرافي بالدول المتقدمة، التي قلت فيها معدلات الإنجاب، وزيادة المساحة التي شغلها كبار السن بالهرم السكاني.
وأولى تقرير البنك الدولي لعام 2023، قضية الهجرة اهتماما خاصا، وأتى التقرير تحت عنوان "تقرير عن التنمية في العالم: المهاجرون واللاجئون والمجتمعات" مبينًا حجم الظاهرة كالتالي:
يعد المورد البشري العنصر الأهم من بين مكونات الموارد الاقتصادية، وباتت الدول الأوروبية تعيش مشكلة كبيرة على هذا المستوى، بسبب ارتفاع نسبة عدد سكانها من كبار السن في العقود الأخيرة، مما دفعها بقوة إلى الاعتماد على المهاجرين في تسيير نشاطها الاقتصادي.
وتبين قاعدة بيانات البنك الدولي حجم المشكلة من خلال مؤشرين مهمين: الأول معدل الخصوبة، والثاني عدد السكان في سن 65 وما فوقها، وتظهر الأرقام أن الاتحاد الأوروبي لديه أقل معدل خصوبة مقارنة بباقي دول العالم.
أما عدد السكان في سن 65 عاما فما فوقها فتبين أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي أن:
ولأسباب اقتصادية تمارس الدول المرتفعة الدخل -الدول الأوروبية ودول الخليج- ما يسمى بالهجرة الانتقائية، كونها تضم 64 مليون مهاجرا، مقابل 10 ملايين لاجئ فقط، وهي سياسة تتوافق مع احتياجاتها من جهة، ومن جهة أخرى حسب الإمكانيات والكفاءات التي يتمتع بها المهاجرون من الدول الفقيرة، أو تلك التي تعاني من نزاعات مسلحة.
ومن خلال مقارنة نصيب كل من الدول المرتفعة الدخل بالدول المنخفضة والمتوسطة الدخل من حيث استيعاب اللاجئين، يظهر لنا وجود فجوة كبيرة بين الفريقين، حيث تحتضن الدول المرتفعة الدخل 10 ملايين لاجئ فقط، بينما تستوعب الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل 27 مليون لاجئ، مما يشكل عبئا اقتصاديا عليها.
ومن هنا يجب أن ينظر إلى ظاهرة الهجرة من خلال ما تقدمه من إيجابيات للدول المضيفة، وما تفرضه من أعباء، خاصة في حالة وجود اللاجئين.
قد يرى البعض في تدفقات المهاجرين من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية فرصة لتدفقات النقد الأجنبي يمكن أن تساعد في تمويل التنمية وتحسين مستوى معيشة أسر المهاجرين، وينطبق هذا على شريحة المهاجرين لأسباب اقتصادية.
لكن هذه الفرصة البديلة للدول الفقيرة تؤدي إلى فقدان الجهود العلمية لأبنائها، واستمرار مؤسسات التعليم بها في الدفع بالكفاءات للخارج، وهو ما يرسخ لاستمرار التخلف والفقر، بينما تقطف الدول الغنية ثمارا جاهزة، لم تنفق على إعدادها أي شيء.
ونقل تقرير البنك الدولي، عن أكسيل فان، أحد خبرائه قوله "إن الهجرة يمكن أن تصبح قوة دافعة لتحقيق الرخاء والتنمية. فإذا ما أُديرت بشكل سليم فإنها تعود بالفائدة على الجميع، في البلدان الأصلية وبلدان المقصد".
وهنا تكمن الإشكالية، كيف تتحقق مصالح الجميع؟ فالتقرير يطرح مجموعة من المقترحات بشأن ذلك، منها أن تقوم الدول المستقبلة بحماية المهاجرين، والحفاظ على حقوقهم، في حين تقوم الدول المرسلة بتجهيز المهاجرين وتسليحهم بالكفاءات المطلوبة في أسواق الدول المستقبلة، أو أن يتم ذلك وفق اتفاقيات ثنائية، أو أن يكون هذا الشأن في إطار متعدد الأطراف.
وتنقل لنا التجربة العملية أن الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف عادة ما تصاغ لصالح الأقوى، وهنا ستجد الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل المصدرة للقوى العاملة والمهاجرين نفسها أمام نفوذ الدول الغنية، كما أنه في ظل العولمة وحرية السفر والانتقال يمكن أن تركز الدول الغنية فقط على مصالحها، من خلال مخاطبة المهاجرين الذين ترغب في استقاطبهم بشكل مباشر بعيدا عن تدخل الحكومات والدول.
تجربة المهاجرين لأسباب اقتصادية -وهي الغالبة على هيكل المهاجرين على مستوى العالم- تشير إلى أن الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل لم تستفد بشكل أفضل من عوائد عامليها في الخارج، وغالبًا ما تفتقد هذه الدول لإستراتيجية تتعلق بإدارة الهجرة بمحاورها المختلفة.
فلا توجد خطة استثمارية مثلًا تستوعب مدخرات العاملين بالخارج، ولا برامج تأمينية تراعي ظروف من طالت بهم الهجرة، كما أن حكومات الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، التي تُعد دول تصدير المهاجرين، لا تشارك في عقود عمل المهاجرين، ولا في السعي لاتفاقيات للحفاظ على حقوقهم، من حيث العمل اللائق والأجر الكريم في دول الاستقبال.
وعلى الجانب الآخر، لوحظ خلال الفترة الماضية تزايد ظاهرة العنصرية ضد المهاجرين في الدول الأوروبية، خاصة القادمين من منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعرقل جهود الاستفادة من الكفاءات.
كما ترصد تجربة علاقة الدول الغنية بالدول الفقيرة، أن الدول الغنية عادة ما تستثأر بكل ثمار أي صورة من صور التعاون.
فلا هي تسمح بنقل التكنولوجيا للدول الفقيرة كتعويض عن الاستفادة من جهود أبنائها المهاجرين، ولا هي تضخ استثمارات أجنبية يمكن من خلالها تحسين الأوضاع التنموية في الدول المصدرة للمهاجرين.
وفي الوطن العربي وجدنا أن ظاهرة الهجرة أخذت أبعادا عديدة، حيث أدت هجرة السوريين إلى تركيا إلى إحياء بعض محافظات الجنوب التركي، حيث حولتها إلى مدن تصدير، بسبب ضخ الاستثمارات السورية، أو اليد العاملة الماهرة والرخيصة.
وفي مصر ضخ المهاجرون السوريون واليمنيون استثمارات واضحة في قطاع الصناعة والخدمات والسياحة والعقارات، كما تميزت الجالية السورية في مصر بالاندماج السريع في سوق العمل.
وعلى كل ستظل قضية الهجرة وعلاقاتها بالتنمية واحدة من الإشكاليات المثارة بشكل دائم في إطار العلاقة بين الشمال والجنوب، أو بين الدول الغنية والدول الفقيرة.
فهل ستنجح الجهود المبذولة لتحويل هذه العلاقة لإطار متعدد الأطراف يحقق مصالح الجميع؟