تردت الأوضاع الاقتصادية في مصر خلال فترة ما بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 بشكل كبير، وذلك وفق ما تظهره المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية الكلية، فالإحصاءات الحكومية تبين أن معدل البطالة ارتد مرة أخرى ليصل إلى 13%، وارتفع معدل الفقر بين السكان ليصل لنسبة 27.1%.
وبلغ معدل التضخم 14.8% بنهاية يوليو/ تموز 2016 على أساس سنوي، كما تجاوز الدين الخارجي مبلغ 54.3 مليار دولار بنهاية مارس 2016، وصاحبه ارتفاع بالدين المحلي بنفس التاريخ ليصل إلى 2.4 تريليون جنيه مصري (ما يعادل 270 مليار دولار).
فضلًاً عن تبني الحكومة المصرية لاستراتيجية توسعية في الدين الخارجي، عبر إنهاء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة تمويلية بنحو 21 مليار دولار على 3 سنوات.
والملاحظ أن ما تنوي أن تطبقه الحكومة المصرية خلال الفترة المقبلة من إجراءات تحت مسمى برنامج للإصلاح الاقتصادي، لا يعدو أن يكون تكرارًا لما تم تنفيذه في مطلع التسعينيات وحتى نهاية عام 1997، حيث تم إنجاز خطوات متقدمة في الإصلاح المالي والنقدي، وتوقفت الحكومة عن الإصلاح الهيكلي، فظل الاقتصاد المصري أسير الاعتماد على المصادر الخارجية الريعية.
ولم تكن هذه هي الفرصة الوحيدة للإصلاح الاقتصادي الحقيقي في مصر، ففي منتصف التسعينيات وقعت مصر على عضوية منظمة التجارة العالمية، وأعطيت 10 سنوات فترة انتقالية لإصلاح وتأهيل الصناعة المصرية لتتواكب مع متطلبات المنافسة العالمية، وفشلت الحكومة في تطبيق البرنامج، وبالتالي إعادة هيكلة صناعة النسيج والدواء والسيارات.
لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، وحينما حلت مواعيد انتهاء الفترات الانتقالية واجهت هذه الصناعات تحديات كبيرة، ووصلت إلى ما يمكن أن نطلق عليه انتهاء الصناعة في مصر.
ولكن بعد الانقلاب العسكري منتصف 2013 سنحت الفرصة للحكومات المتتالية باتخاذ خطوات جادة للإصلاح الاقتصادي وعبور حقيقي لمعضلات الاقتصاد المصري، ولكن الإدارة الاقتصادية أبت إلا أن تستمر مصر في مواجهة مشكلات اقتصادية تجهد الأجيال الحالية، وتخلق مستقبلًاً مبهمًا أمام الأجيال المقبلة.
وفيما يلي نشير إلى بعض الفرص الضائعة للإصلاح الاقتصادي بمصر بعد الانقلاب العسكري.
اتخذت حكومة حازم الببلاوي في الشهور الأولى عقب وقوع الانقلاب العسكري بعض القرارات الاقتصادية التي تسمح لها بوجود حيز مالي، يساعد في تقليص عجز الموازنة، وتخفيف أعباء الدين العام المحلي، وكذلك خفض الدين العام الخارجي، حيث تم تخفيض سعر الفائدة؛ مما ساهم بتخفيض أعباء الدين المحلي بنحو 30 مليار جنيه.
وكذلك تم إصدار قرار تطبيق الحدين الأدنى والأقصى للأجور، ولكن تم تفريغ هذا القرار من مضمونه وإفادته لإصلاح هيكل الأجور في مصر، بسبب الاستثناءات التي تمت لصالح العاملين بالجيش والشرطة والقضاء وموظفي البنوك.
من جانب آخر استخدمت حكومة الببلاوي وديعة دولارية بنحو 9.2 مليارات دولار لدى البنك المركزي، وهو ما سمح لها بمساحات مالية أفضل لمواجهة الأعباء المالية، وكان للخطوات التي اتخذتها الحكومة في يوليو 2014 من تخفيض لبند الدعم بنحو 51 مليار جنيه، فرصة لتوجيه هذه الوفورات المالية لصالح الاستثمارات العامة، ولكنها لم تفعل، وركزت على سد متطلبات الإنفاق الجاري.
وتلقت الحكومة الحالية مساعدات خليجية قدرت بحدود 40 مليار دولار، وهي وحدها كافية لإحداث نقلة تنموية، ولكن هذه المساعدات وما سبقها من موارد محلية في الإنفاق الجاري، وعدم التفكير في دعم القاعدة الإنتاجية، لم يترجم إلى إصلاح اقتصادي.
في الوقت الذي حجمت فيه الحكومة حركة الإيداع والتحويلات الخارجية للنقد الأجنبي، وكذلك عملت على تقييد حركة الاستيراد بهذه الإجراءات، وكذلك رفع الجمارك على قائمة من السلع، لم تتجه الحكومة لتوفير البديل من التصنيع المحلي، حيث كان من الواجب أن يتم تنسيق بين القطاعات الحكومية المختلفة وقطاع الصناعة الصغيرة والمتوسطة، للقيام بتصنيع وإنتاج هذه السلع محليًا، ما يؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة، ويقلل من ضغط الطلب على الدولار، ويحدث نوعًا من تخفيف حدة العجز في الميزان التجاري.
كما لم تراع الحكومة المصرية في قراراتها الخاصة برفع دعم الطاقة الفوارق بين الصناعات الاستراتيجية أو الصناعات المحلية التي تمثل احتياجا لا بديل عنه سوى الاستيراد، فرفعت من تكلفة المنتج المصري؛ مما ساعد على ضعف موقفه التنافسي في السوقين المحلي والأجنبي.
لا تزال الحكومة تشكل عبئا على الجهاز المصرفي من خلال استنزاف الموارد الادخارية للبنوك في الأذون والسندات الحكومية، ومزاحمة القطاع الخاص في الاقتراض من الجهاز المصرفي.
وكانت الخطوة الأكثر ضررًا بالاقتصاد القومي وبالجهاز المصرفي، هي توظيف الجهاز المصرفي لصالح الدين الحكومي، من خلال إصدار شهادات استثمار بمعدلات فائدة عالية تتجاوز 12%، وهو ما ساعد على استنزاف الموارد الادخارية من البنوك، ووضعها في تلك الشهادات سعيًا وراء العائد الكبير.
أما شهادات استثمار قناة السويس، فمثلت ضربة كبيرة للاقتصاد المصري، من خلال وضع مبلغ 64 مليار جنيه في مشروع بلا دراسة جدوى، أدى إلى زيادة الأعباء المالية للموازنة العامة للدولة من خلال دفع 7.68 مليارات جنيه فوائد سنوية، وانتظار سداد كامل المبلغ في أغسطس 2019.
وكان الأولى أن توظف هذه الأموال في قطاعي الصناعة والزراعة، من خلال إنشاء مجموعة من الشركات المساهمة، التي لا تحمل الدولة أية أعباء، وتؤدي إلى المساءلة والشفافية من قبل المساهمين.
اتخذت حكومات ما بعد الانقلاب مجموعة من القرارات أدت إلى تشويه مناخ الاستثمار في مصر، على رأسها ما يتعلق باضطراب سعر الصرف، وزيادة أعباء التمويل بعد قرارات زيادة سعر الفائدة، وكذلك ارتفاع معدلات التضخم.
كما فرطت الحكومة في خصخصة بعض المشروعات الخاصة بالصناعات الغذائية لصالح شركات خليجية، وكان الأولى بها أن تصلح من شأن هذه الشركات لا أن تقوم ببيعها.
كما ساهمت مزاحمة القوات المسلحة للقطاعات المدنية في الشأن الاقتصادي في تشويه مناخ الاستثمار، لما تتمتع به القوات المسلحة من مزايا الإعفاءات الضريبية والجمركية والعمالة بلا أجر من قبل المجندين، فضلاً عن استحواذ القوات المسلحة على المشروعات العامة عن طريق الإسناد بالأمر المباشر.
في ظل أزمة تمويلية خانقة، وتوسع غير مسبوق في الدين العام، توجهت مصر لعقد صفقات تسليح قد لا تكون من متطلبات المرحلة الحالية، وبخاصة في بلد لديه أزمة تنموية، نتج عنها العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
لقد فضل الانقلاب العسكري شراء شرعيته الدولية والإقليمية عبر صفقات التسليح، على الاهتمام بإرساء قواعد الإصلاح الاقتصادي الإنتاجي، أو بناء نموذج للتنمية يعتمد على الذات.
لقد دفع الشعب المصري أثماناً غالية لهذا التخبط الاقتصادي، وأغلى هذه الأثمان، هو فقدان الأمل، والشعور لدى كافة شركاء التنمية بمصر بأن المستقبل أشد سوءاً.