بعد تبني سياسة، خاطئة من قبل السلطة الحاكمة في مصر بحماية سعر صرف الجنيه، منذ منتصف عام 2018، باعتباره أحد منجازاتها الواهية، اضطرت مؤخرًا إلى تحريك سعر صرف الجنيه، لينخفض أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية، فحسب الأسعار المعلنة في البنك التجاري الدولي اليوم الخميس 21 مايو 2020، بلغ سعر شراء الدولار 15.81 وسعر بيعه 15.91.
بينما كان سعر صرف الدولار في البنوك المصرية، في نهاية مارس 2020، عند 15.68 للشراء، و15.78 للبيع، انخفضت قيمة الجنيه أمام الدولار خلال الفترة من نهاية مارس إلى نهاية مايو 2020 بنحو 13 قرشًا.
مع ملاحظة أن هذا الانخفاض، لا يعبر عن واقع العرض والطلب للعملات الأجنبية في مصر، حيث تراجعت مصادر النقد الأجنبي لمصر بشكل كبير، مع حلول أزمة كورونا نهاية ديسمبر2019، ولذلك وجدنا السلطة الحاكمة في مصر، تلجأ لصندوق النقد الدولي، لتطلب قرضًا جديدًا عبر برنامجين من المساعدات بقيمة 8.5 مليارات دولار، الأول لمعالجة الخلل الناتج في ميزان المدفوعات، والثاني لدعم السياسات الاقتصادية الكلية.
وكان المتوقع أن تتراجع قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية بمعدلات أكبر مما تم منذ مطلع عام 2020، ولكن السلطة الحاكمة هناك حريصة على أن تضحي بانهيار رصيدها من احتياطيات النقد الأجنبي –المبني من الديون- على مدار شهري مارس وأبريل 2020، بنحو 8.5 مليارات دولار، من أجل حماية سعر الجنيه، دون أي داعٍ أو مبرر اقتصادي.
وهو ما يثير التساؤلات حول سلوك السلطة الحاكمة في مصر، والذي تمثل في حماية أموال المستثمرين الأجانب في الدين الحكومي المصري، لماذا لا يتحملوا مخاطر سعر الصرف عند خروجهم بانخفاض قيمة الجنيه، مقابل ما حصلوا عليه من أرباح من خلال سعر الفائدة الذي اقترب لمدة طويلة من 20%، وكذلك خروجهم بسعر صرف يحقق لهم أرباحا أخرى؟
ليس هناك مبرر، سوى اتهام هذه الحكومة، بأن لها مصلحة في خروج هذه الأموال، بهذه الطريقة الآمنة، محملة بأرباح كاملة. أو أن هناك ما تخشى منه الحكومة فيما يتعلق بعقود دخول هذه الاستثمارات إلى مصر، قد تكون تعهدت لهم بضمان خروج أموالهم دون أية خسائر، وتحميل الشعب المصري هذه الخسائر في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية بالغة السوء.
من المتوقع في ظل السيناريوهات المفتوحة لأزمة كورونا، واستمرار ظلالها السلبية على الأقل خلال عام 2020، أن يشهد الجنيه المصري المزيد من التراجع، وذلك بسبب ما ستمليه وصايا صندوق النقد الدولي بشكل رئيس، للمطالبة بتخفيض قيمة العملة.
كما أن مصر ستواجه خلال هذه الفترة، استمرار تراجع مواردها من النقد الأجنبي، من مصادرها الرئيسة والتقليدية، من (إيرادات السياحة التي أصبحت صفرا، أو رسوم المرور بقناة السويس التي تتأثر سلبا بتراجع معدلات التجارة العالمية، وتراجع الصادرات السلعية، وانخفاض أسعار النفط في السوق الدولية، وكذلك احتمالات تراجع تحويلات العاملين بالخارج، نظرًا لما تمر به منطقة الخليج من أوضاع اقتصادية سلبية).
كما سيكون هناك عامل محلي، سيؤدي إلى المزيد من خفض قيمة الجنيه، وهو اتجاه المدخرين المصريين للدولار، لحماية مدخراتهم، وبخاصة أن أداء السلطة الحاكمة في مصر، لا يتسم بالشفافية، أو المشاركة في اتخاذ القرار، مع ملاحظة أن السوق السوداء عادت للعمل في مصر منذ مطلع 2020، بعد أن تفاقمت أزمة كورونا، وكان سعر الدولار في السوق السوداء بمارس 2020 عند 16.25 جنيه.
على الرغم من أن السلطة الحاكمة أغلقت شركات الصرافة مبكرًا، مع بداية ظهور أزمة كورونا، لكي تحد من دور هذه الشركات في انعاش السوق السوداء لسعر الصرف. ولكن خبرة تجارة السوق السوداء للعملة في مصر عميقة، وممتدة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، على الرغم من المواجهات والتدابير القانونية التي تتخذها الحكومة.
وسوف تنطلق موجة انخفاض الجنيه المصري، بوتيرة أعلى مما هي عليه الآن، بعد عيد الفطر، ولن يكون هناك أثر للقروض التي ستحصل عليها مصر من الخارج، في تهدئة حدة انخفاض الجنيه، لأن جزءًا من هذه القروض سيتم استخدامه في إعادة سداد قروض مستحقة على مصر للخارج، وكذلك سد جزء من عجز الموازنة، أو دعم احتياطي النقد الأجنبي.
ومع التسليم بأن مصر سوف تحصل على حزمة قروض جديدة، بنحو 9 مليارات دولار من الخارج خلال عام 2020، بما فيها الجزء الثاني من قرض صندوق النقد الدولي، فلن يكون لها أثر كبير في الحد من انخفاض قيمة الجنيه، بسبب استمرار توقف وتراجع مصادر النقد الأجنبي بمصر، ومن جهة أخرى فقرض صندوق النقد الدولي لن يدفع مرة واحدة، إنما سيكون على شرائح، وفق ما يفضي إليه الاتفاق لشروط ومدة البرنامج.
وكذلك فمن غير المعلوم إن كانت حركة خروج المستثمرين الأجانب من الدين العام المحلي المصري ستتراجع أو تتوقف خلال الفترة القادمة، فما تبقى لهم من استثمارات في مصر بحدود 9.5 مليارات دولار بنهاية أبريل 2020. وهو ما يعني أن نزيف الدولارات مستمر في مصر خلال الفترة القادمة، وفي حالة استمرار خروج هذه الأموال، سيكون انخفاض الجنيه المصري كبيرًا، وقد يماثل ما حدث عقب تحرير سعر الصرف بعد نوفمبر 2016، عقب توقيع مصر اتفاقها مع صندوق النقد الدولي.
كالعادة، السلطة الحاكمة في مصر لم تتعلم الدرس، فبدلًا من أن تقوي القطاع الإنتاجي، وتشجع المنتج المحلي، ركزت على إهدار ما لديها من تمويل العاصمة الإدارية الجديدة، أو الكباري والأنفاق والطرق، وهي مشروعات لا تمثل متطلبا آنيا للاقتصاد المصري، ولا حتى تمثل مطلبًا ضروريًا في الأجل المتوسط.
وفي أبريل 2020، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة أن معدل التضخم على أساس سنوي بلغ 5.9%، إلا أنه يتوقع أن ترتفع معدلات التضخم في مصر خلال الفترة القادمة، بسبب الانخفاض الحالي في الجنيه، أو المرتقب خلال الفترة القادمة.
وتستمر دوامة المشكلات، من انخفاض في قيمة الجنيه، ثم ارتفاع التضخم، ثم ارتفاع معدلات الفقر، وزيادة أعباء المعيشة، مما يزيد من التداعيات السلبية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في مصر.