أشارت بيانات البنك المركزي المصري عن التضخم، بنهاية أغسطس/آب الماضي، إلى بلوغه 37.4%، وأتت بيانات ميزان المدفوعات للعام المالي 2022-2023 لتظهر استمرار الفجوة التمويلية، على الرغم من جهود تقليص الواردات السلعية.
ومن أهم مظاهر الفجوة التمويلية لمصر ما تشير إليه بيانات النشرة الإحصائية للبنك المركزي المصري في عدد يونيو/حزيران الماضي من أن صافي الأصول الأجنبية للجهاز المصرفي بالسالب بنحو 745.8 مليار جنيه (سالب 24 مليار دولار).
ومؤخرا خفضت وكالة موديز تصنيفها الائتماني لمصر ليكون عند "سي إيه إيه 1" (CAA1) بدلًا ممن "بي بي بي" (BBB)، مما يعني ضعف الموقف الائتماني، ووصفه بالمخاطر العالية. وأيضا خفض بنك "مورغان ستانلي" نظرته للديون المصرية من الحياد إلى "عدم التحبيذ". وقد أدت هذه التقييمات السلبية إلى تراجع قيمة السندات المصرية في السوق الدولية.
ومؤخرا، طالبت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا مصر بالإسراع في تخفيض قيمة الجنيه من أجل الحفاظ على احتياطات النقد الأجنبي.
ويأتي ذلك في ظروف صعبة تواجهها القاهرة وهي بحاجة للحصول على قرض من الصندوق بنحو 3 مليارات دولار ولن يتم ذلك إلا بقبول شروط الصندوق.
وتحتاج مصر هذه القروض للوفاء بالتزاماتها أمام الدائنين، واللجوء لسوق السندات الدولية في هذا التوقيت في ظل تقيميات سلبية يعني أن تكلفة القروض ستكون عالية جدا.
ومما أظهرته البيانات الحديثة للبنك المركزي المصري، عبر ميزان المدفوعات للعام المالي 2022-2023 (السنة المالية في مصر تبدأ في الأول من يوليو/تموز)، أن العجز بالميزان التجاري تراجع من 43.9 مليار دولار إلى 31.1 مليار دولار.
وإن كان هذا الأمر يبدو في الوهلة الأولى أمرا إيجابيا، إلا أنه عكس ذلك، فلا تزال الواردات السلعية أعلى بكثير من الصادرات السلعية، وبخاصة غير النفطية منها.
كما أن تراجع عجز الميزان التجاري أتى من خلال إقدام الحكومة على تقليص الواردات السلعية التي تراجعت إلى 70 مليار دولار، بعد أن كانت 87 مليار دولار العام الماضي.
ولكن انعكس ذلك بشكل سلبي على سوق العديد من السلع الضرورية التي يتم استيرادها من الخارج، سواء كانت سلعا تامة الصنع كالأدوية، أو مستلزمات إنتاج، مما انعكس على أسعار بعض السلع التي ارتفعت بشكل كبير.
بلغ إجمالي المصادر الريعية في بنود ميزان المدفوعات للعام المالي 2022-2023 نحو 58.1 مليار دولار، منها 22 مليارا تحويلات العاملين بالخارج، والصادرات البترولية 13.8 مليارا، وإيرادات قطاع السياحة 13.6 مليارا، وعوائد المرور بقناة السويس 8.7 مليارات دولار.
ومعنى ذلك أن الإيرادات الريعية تمثل أزيد بقليل من نسبة 50% من إجمالي الإيرادات الدولارية لمصر في هذا العام، والبالغة قرابة 103 مليارات دولار.
واستمرار اعتماد مصر بنسبة كبيرة على الإيرادات الريعية يعرض البلاد لأزمة بشكل مستمر، ولا أدل على ذلك ما حدث بالنسبة لتحويلات العاملين بالخارج التي تراجعت من 31.9 مليار دولار في العام الماضي إلى 22 مليار دولار في العام 2022-2023.
والشيء نفسه حدث من قبل بالنسبة للإيرادات السياحية إبان أزمتي فيروس كورونا وأزمة الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تأثرت إيرادات السياحة بشكل كبير، وكان ذلك حال السياحة مع كل أزمة أو اضطرابات إقليمية أو دولية.
تشير بيانات ميزان المدفوعات إلى أن هناك تحسنا واضحا في إيرادات قطاع السياحة وقناة السويس في عام 2022-2023، فقد بلغت إيرادات قطاع السياحة 13.6 مليار دولار بزيادة قدرها 2.9 مليار دولار عن العام الماضي، كما بلغت عوائد قناة السويس 8.7 مليارات دولار بزيادة قدرها 1.8 مليار دولار عن العام الماضي.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن تحويل أرباح المستثمرين الأجانب للخارج يزيد بمعدلات كبيرة في الوقت الذي تعاني فيه مصر من أزمة خانقة في النقد الأجنبي، فأرباح الأجانب بلغت 19.4 مليار دولار، بعد أن كانت 16.7 مليار دولار العام الماضي.
وقد تحولت أرباح المستثمرين الأجانب المحولة للخارج إلى عبء دائم على ميزان المدفوعات المصري، فبعد أن كانت بحدود 7.1 مليارات دولار في 2018-2019، ارتفعت إلى 19.4 مليار دولار في 2022-2023، ويذكر أن أرباح المستثمرين الأجانب تتضمن فوائد الدين الخارجي.
ويلاحظ أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر لم تحقق المرجو منها، فما يزيد عن 50% من التدفقات الصافية للاستثمارات الأجنبية أتى من قطاع النفط بـ5.7 مليارات دولار، أيضا هناك 1.2 مليار دولار من جانب الخصخصة، ونحو 553 مليون دولار من شراء عقارات لأجانب غير مقيمين.
وما تحتاجه مصر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة هو المساهمة في قطاعات الصناعة والزراعة لتحقيق قيمة مضافة عالية، تغير من هيكل الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك تقليص عجز ميزان المدفوعات.
تعدّ أزمة المديونية العامة، التي تعيشها مصر من أهم أسباب اضطراب وضعها المالي، وبخاصة أن الحكومة أسرفت في الاقتراض بشكل عام، وفي الاقتراض القصير الأجل بشكل خاص، فمع كل 6 أشهر تجد الحكومة نفسها مطالبة بسداد من 15 إلى 20 مليار دولار تقريبا.
وبلغ الدين العام الخارجي لمصر في مارس/آذار الماضي نحو 165 مليار دولار، وتجاوز الدين المحلي حاجز 6 تريليونات جنيه (الدولار يساوي نحو 31 جنيها)، وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري ووزارة المالية.
وحسب بيانات الموازنة العامة للدولة لعام 2023-2024، يعد بند فوائد الديون الأكبر بين باقي مخصصات الإنفاق العام عند 1.12 تريليون جنيه، مما يقترب من ضعف مخصصات الاستثمارات العامة (586 مليار جنيه).
وتعيش الموازنة العامة للدولة أزمة عجز مزمنة بسبب مشكلات المديونية العامة، فقد تفاقم عجز الموازنة بشكل كبير، وانتقل العجز الكلي من 255 مليار جنيه في 2013-2014 إلى 824 مليار جنيه حاليا، وبلا شك فإن تراكم عجز الموازنة على مدى تلك السنوات أدى إلى تفاقم أزمة المديونية، وبالتالي زيادة أعبائها من أقساط وفوائد.
تمثل الصادرات السلعية أحد مقومات قوة اقتصادات الدول لما تساعد به من استمرار النشاط الاقتصادي، وتوفير فرص عمل، وكذلك جلب النقد الأجنبي، ولكن بيانات ميزان المدفوعات لمصر في العام المالي 2022-2023 تظهر أن أداء الصادرات السلعية غير النفطية بحدود 25 مليار دولار، وهو مبلغ متواضع عند مقارنته بدول أخرى.
وبالنظر إلى مكون الصادرات العالية التكنولوجيا لمصر في عام 2021، نجد أنه بحدود 526 مليون دولار فقط، مما يعني أن القيمة المضافة للصادرات السلعية متواضعة، وتحتاج إلى تبني إستراتيجية للنهوض بها خلال الفترة القادمة.
وتظل مشكلة مصر المزمنة في تجارتها الخارجية، فيما يخص الجانب السلعي غير النفطي، أن وارداتها عادة أكبر من ضعف صادراتها، وهو ما نلمسه في أداء عام 2022-2023، حيث بلغت الصادرات السلعية غير النفطية 25 مليار دولار، في حين بلغت الواردات السلعية 57 مليار دولار.
وتظهر البيانات الرسمية أن معدل الفقر في مصر تبلغ نسبته 29.7% في العام المالي 2019-2020، ولكن بعد هذا التاريخ تراجعت العديد من المؤشرات الاقتصادية، وارتفعت الأسعار بشكل ملحوظ، وبالتالي فإن معدل الفقر سيرتفع، وينتظر أن يعلن جهاز الإحصاء عن البيانات الأحدث عن الفقر في اليوم العالمي للحد من الفقر يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أو خلال ما تبقى من عام 2023.