قد يكون من الخطأ قراءة أزمة الوقود في مصر من خلال بعض الأخبار الخاصة بحصول مصر على هبات أو مساعدات خليجية بترولية، أو استيرادها للوقود من روسيا أو دولة الكيان الصهيوني. إن القضية أبعد من ذلك بكثير، لما تعكسه من دلالات استراتيجية تحدد مستقبل العديد من القضايا الاقتصادية لمصر.
في مطلع الألفية الثالثة توقع خبير الطاقة د. حسين عبدالله من خلال دراسة له بعنوان "أزمة نضوب البترول والغاز في مصر"، ما يحدث الآن، وطالب في دراسته بضرورة وقف تصدير البترول والغاز المصري، وذكر أن مصر سوف تستورد الغاز الطبيعي بأسعار عالية تتجاوز، بأكثر من أضعاف، أسعار التصدير التي تتعاقد بها مصر مع دول أجنبية.
وبنى عبدالله دراسته على اعتبار أن معدل زيادة استهلاك مصر للطاقة بواقع 3 في المئة سنوياً، وهو ما أثبتت صحته الأرقام المنشورة بالخطة العامة للدولة عن سنوات 2012/2013 و2013/2014، حيث تبين أن حجم الاستهلاك من البترول والغاز بمصر في عام 99/2000 كان 39.3 مليون طن، وارتفع في عام 08/2009 إلى 67.6 مليون طن، بينما في 2013/2014 وصل إلى 81.2 مليون طن.
إن دلالات أزمة الوقود في مصر قائمة، والتي تتمثل في خروج مصر من دولة مصدرة للبترول والغاز، إلى دولة مستوردة للبترول والغاز. والدليل على ذلك ما نشر بتقرير البنك المركزي المصري عن صافي تعاملات مصر في مجال البترول بوجود عجز بلغ 300 مليون دولار مع نهاية العام المالي 2012/2013.
فضلًا عن باقي المؤشرات التي تتضمنها بيانات النصف الأول من العام المالي 2013/2014، فتقرير متابعة الخطة، الصادر عن وزارة التخطيط المصرية عن هذه الفترة، يشير إلى تراجع الصادرات البترولية والغاز والمنتجات البترولية في النصف الأول من العام المالي 2013/2014، لتصل إلى 6 مليارات دولار بمقارنة بنحو 6.7 مليارات دولار في الفترة المناظرة من عام 2012/2013، أما واردات مصر من الخام والمنتجات البترولية لنفس الفترة فبلغت 2.6 مليار دولار، مقارنة بنحو 6.5 مليارات دولار بالفترة المناظرة من عام 2012/2013.
"تعاني مصر من عجز وصل الى 400 مليون دولار عند احتساب كل واردات النفط"
وذكر التقرير أن السبب في انخفاض واردات مصر من الخام والمنتجات البترولية، هو تراجع منح المنتجات البترولية من دول الخليج، والتي قدرت بنحو 3.8 في المئة. وهنا يمكننا تقدير العجز لو تم استبعاد المنح واحتسابها على أنها واردات حقيقية، فإن واردات مصر خلال هذه الفترة، كان يقدر لها أن تصل إلى 6.4 مليارات دولار، أي ما يعني وجود عجز مقداره نحو 400 مليون دولار.
لكن التدخل الخليجي من خلال المنح البترولية حوّل العجز إلى فائض بلغ 3.4 مليارات دولار، وهنا لابد أن نقرأ هذا الفائض قراءة صحيحة، فهو فائض لا يتصف بالاستدامة، فضلًا عن أنه ليس فائضاً ذاتياً، وإنما يعكس حجم الأزمة التي ستواجهها مصر مستقبلًا في مجال الطاقة.
وقد دخلت مصر بالفعل مرحلة استيراد الغاز، ومن قبل كانت تستورد مشتقات بترولية، إلا أن استيراد الغاز الطبيعي، هو الملمح الباز في مرحلة التحول التي تمر بها مصر، ولا أدل على ذلك من أن مصر لا تمتلك بنية أساسية لاستيراد الغاز المسال، وإعادته إلى الحالة الغازية، لذلك لجأت إلى التعاقد مع شركة نرويجية لتأجير عوامة تجري فيها عملية تحويل الغاز من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية.
وكما ذكرت وسائل الإعلام، فإن هذه العوامة سوف تتأخر عن ميعاد تسلمها، وهو ما سيتسبب عفي تأخير شحنات الغاز التي تم التعاقد عليها لمصر من روسيا، والتي كان مقرراً لها أن تبدأ بالوصول إلى الموانئ المصرية في أغسطس/آب المقبل.
وتقدر خطة الدولة للعام المالي 2014/2015 احتياجات مصر من استيراد الغاز بنحو 500 مليون قدم مكعبة يومياً.
في ضوء بيانات ما تنتجه مصر من البترول والغاز فإن قضية الطاقة في مصر لن تكون أزمة عابرة، إنما ستمتد لسنوات، وسيكون لها تبعاتها طويلة الأجل، فضلًا عن أن الطاقة البديلة للوقود الأحفوري (البترول والغاز) لازالت في طور البدء، ولا تحقق معدلاً يمكنه تغيير معادلة الطاقة بشكل إيجابي لصالح مصر.
إن تقديرات خطة عام 2014/2015 تذهب إلى أن إجمالي استهلاك مصر من البترول والغاز سيكون بحدود 81.2 مليون طن، في حين أن الإنتاج من المصدرين، بحدود 80.5 مليون طن. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأزمة تكمن في حصة الشريك الأجنبي من هذا الإنتاج، والتي تتراوح ما بين 20 في المئة، و40 في المئة، وهو ما يعمق الفجوة في الاحتياجات المصرية من الطاقة.
ومن ناحية أخرى فإن هذا الإنتاج ليس متاحاً بشكل كامل تحت يد مصر، بعد حسم حصة الشريك الأجنبي، ولكنْ هناك عقود تصدير مصر ملزَمة بها لفترات طويلة. ومن هنا تصبح الفجوة، تعبّر عن مزيد من الواردات من الغاز الطبيعي، والمنتجات البترولية.
من أهم الأبعاد الاستراتيجية في تحول مصر من دولة مصدرة إلى دولة مستوردة، أن تسعير الطاقة في مصر خلال نحو ثلاث سنوات من الآن، إن لم يكن أقل، سوف يتجه ليكون بالأسعار العالمية.
"خلال ثلاث سنوات سوف تتجه مصر لتسعير الطاقة وفق الأسعار العالمية"
سواء كانت للمستهلكين بالمنازل، أو في المتاجر والمصانع، فقرار الحكومة الذي سيدخل حيز التنفيذ في يوليو/تموز 2014 هو أن تكون زيادة أسعار الكهرباء لشريحة الـ 20 في المئة الأعلى استهلاكاً، كما تم رفع أسعار الغاز الطبيعي بالفعل قبل يوليو الحالي للمنازل والمتاجر.
وكما أعلن وزير المالية المصري فإن موازنة العام المالي 2014/2015، اعتمدت رفع أسعار الوقود، لتخفيف فاتورة الدعم بالموازنة بنحو 41 مليار جنيه مصري. كما يخطط لإلغاء الدعم المقدم للصناعات كثيفة استهلاك الطاقة في فترة وجيزة.
ومن هنا يصبح عصر الطاقة الرخيصة في مصر قد انتهى، ولذلك ستكون هناك اعتبارات جديدة لها تأثيرها على ميزانية الأسرة المصرية، وكذلك تكلفة الإنتاج في مصر لكل السلع والخدمات.
ليس هناك مفر من أن تأخذ أي زيادة في معدلات النمو الاقتصادي عما هي عليه الآن، لكي تتناسب مع معدلات الزيادة السكانية، في حسبانها تكلفة الطاقة، والأهم من التكلفة تأمين وصولها باستمرار، في ظل تذبذب أسعار الطاقة في السوق الدولية.
"الأجواء السياسية في المنطقة ترفع من كلفة توريد ونقل الطاقة الى مصر"
إن خطة الدولة للعام المالي 2014/2015 ذكرت أن التحدي الذي يواجه قطاع البترول والغاز الطبيعي هو "كيفية تأمين احتياجات القطاعات المختلفة من الطاقة وفقاً لمعدلات الزيادة المتوقعة في الطلب، على النحو الذي يحول دون حدوث اختناقات متكررة، وانتشار السوق السوداء في عمليات التوزيع وعدم وصول المنتجات البترولية المدعمة لمستحقيها، مع مراعاة تخفيف عبء الدعم على الموازنة العامة".
إن الأجواء السياسية المضطربة في الدول المحيطة، تجعل المنطقة العربية باهظة التكاليف لتوريد ونقل الغاز والبترول لمصر، وإذا كانت مصر تمر بهذه الأزمة في الطاقة التي حولتها من مصدر لمستورد للغاز والبترول، وهي تحقق معدلات نمو اقتصادي لا تتجاوز 2.6 في المئة، فما بالنا إذا شرعت الحكومة في تحقيق المعدلات الواجبة تحقيقها وهي 7في المئة؟!
على الرغم من المبالغ المتواضعة التي حققتها مصر في مجال الاستثمارات الأجنبية خلال السنوات الماضية، إلا أنها تحتاج إليها بشكل كبير خلال السنوات المقبلة، نظراً للأزمة التمويلية التي تعيشها.
"العقبة امام الاستثمارات الأجنبية أن مصر لم تعد تقدم ميزة الطاقة الرخيصة"
إلا أن العقبة أمام هذه الاستثمارات الآن، أن مصر لم يعد بوسعها أن تقدم ميزة تنافسية لهذه الاستثمارات، وهي الطاقة الرخيصة، فبعض الصناعات تحصل على الغاز المصري بـ 0.75 سنت للمليون وحدة حرارية، ثم تقوم بتصدير غالبية منتجاتها للخارج، وما يباع بالداخل يباع بالسعر العالمي.
والسؤال الآن، إذا كانت مصر قد تحولت لدولة مستوردة للغاز، وتحصل عليه بسعر 12 دولاراً للمليون وحدة حرارية، فهل تستطيع أن تقدم الغاز لأي مستثمر محلي أو أجنبي بأقل من تكلفته الحقيقية؟.
إن القضاء المصري حكم منذ أيام قليلة لإحدى شركات الأسمدة ضد شركة الغاز الطبيعي، بإلزام شركة الغاز بتوريد الغاز لشركة الأسمدة بالسعر المتفق عليه، وليس من حق شركة الغاز رفع السعر.
كما أن وضع الموازنة العامة للدولة في مصر لم يعد يستحمل هذا العبث، وبالتالي فالاستثمارات الأجنبية لن يغريها شيء آخر في مصر لتأتي للاستثمار به، لا العمالة، ولا التكنولوجيا، ولا البحث العلمي أو التعليم، فللأسف معظم الاستثمارات الأجنبية بمصر، كانت تستعين بعمالة أجنبية، وتستورد تكنولوجيا الإنتاج والتطوير الخاصة بها.
والخلاصة أن مصر تدفع الآن ثمن غياب التخطيط الاستراتيجي في واحدة من القضايا المهمة، وهي قضية الطاقة، فالمناداة بوقف تصدير الغاز والبترول، بدأت منذ منتصف التسعينيات.
لكن الحكومات المتعاقبة لم تستجب لهذه النداءات، واستمرت في اعتماد عقود طويلة الأجل، وبخاصة في تصدير الغاز، مما وضع مصر تحت طائلة الشروط الجزائية في تلك العقود.
فأصبحت مصر تصدّر غازها بـ 4 أو 5 دولارات على أقصى تقدير للمليون وحدة حرارية، في الوقت الذي تستور فيه الغاز الآن بما يقدر بنحو 12 دولاراً للمليون وحدة حرارية.