اتفاقيات هنا واجتماعات هناك.. قوانين جديدة تصدر وأخرى تلغى.. كل هذه مؤشرات تدل على وجود نوع من الحراك في الاقتصاد الليبي.. المسئولون الليبيون يسمون هذا الحراك "الرأسمالية الشعبية"، ولكن الواقع بعيدا عن خلاف المسميات يقول إنه اتجاه نحو اقتصاديات السوق بعد نحو 40 عاما قضاها الاقتصاد الليبي في كنف الاشتراكية، معتمدا على مصدر واحد فقط هو النفط.
الأسباب التي أدت إلى هذا التحول مهد لها تقرير مصرف ليبيا المركزي لعام 2006 والذي ألقى باللائمة على الأجهزة الحكومية والشركات العامة في مشكلة تدني الإيرادات الحكومية غير النفطية، واتهمها بعدم الكفاءة، وحتى يمكن رصد هذه الأسباب لابد من التعرف على ملامح الاقتصاد الليبي، وكيف قادت هذه الملامح لمظاهر التحول التي نختم بعرض أسبابها.
أدى تراكم الآثار السلبية لهذه الملامح إلى اتجاه ليبيا نحو النهج الجديد الذي سمته "الرأسمالية الشعبية"، ولكنه في الواقع وداع للنظام الاشتراكي وانخراط في منظومة اقتصاديات السوق، وكان لهذا التحول مظاهر عدة، هي:
والذي يدعو للتساؤل عن هذا التحول في الاقتصاد الليبي أن النظام السياسي هو نفسه الذي يسير الأمور فيها منذ ثورة الفاتح في عام 1969 بقيادة العقيد القذافي، ولا زالت القناعات الفكرية لهذه القيادة ثابتة ولم تتغير على مدار 40 سنة، إلا تغييرا في شكل النظام الاشتراكي من خلال مسميات اللجان الشعبية، وبلا شك هناك مجموعة من المبررات وراء هذا التحول، وهي:
النتائج التي أسفرت عنها التجربة في تطبيق ليبيا للنظام الاشتراكي كانت معيبة بسبب العديد من الأخطاء المرتبطة بالمناخ السياسي والتوجهات الفكرية خلال الفترة الماضية، فنتج عنها هذا الحجم من الاتكال على الدولة في كل شيء، ووجود البيروقراطية الحكومية والبطالة المقنعة، وتخلف الصناعة، وبقاء ليبيا كما هي دولة منتجة للنفط وفقط، وتستورد في حدود 15% من احتياجاتها من الغذاء، على الرغم من عدد سكانها المحدود وإمكانياتها الهائلة من عوائد النفط.
في عام 2003 تم رفع العقوبات الأوروبية عن الاقتصاد الليبي، وفي عام 2004 تم رفع العقوبات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عن ليبيا، ومن هنا وجدت ليبيا نفسها منفتحة على الاقتصاد العالمي، لتعوض هذه العزلة والتي بلغت نحو 15 سنة، ليجد المستهلك الليبي آلاف المنتجات من كافة بقاع الأرض، وكذلك العديد من الخدمات التي تخاطب رغبات هذا المستهلك المعزول عن العالم طوال هذه الفترة الطويلة، وعلى ما يبدو أن رفع العقوبات الأوروبية والأمريكية عن ليبيا في عامي 2003 و2004 كان يشترط اندماج ليبيا في الاقتصاد العالمي والقبول باقتصاديات السوق والتخلي عن النهج الاشتراكي، وليس فقط التخلي عن بعض برامج التسليح النووي والكيماوي.
لم يكن الاقتصاد الليبي يملك رفاهية الخيار بين نظم اقتصادية مختلفة، فإما الاتجاه نحو اقتصاديات السوق، والتي أصبحت مهيمنة منذ التسعينيات من القرن العشرين من خلال اقتصاديات العولمة، وهو نظام تسانده مؤسسات دولية وحكومات غربية قوية، بينما النظام الاشتراكي انهار مع انهيار الاتحاد السوفيتي (سابقا) واتجاه العديد من الدول الاشتراكية نحو اقتصاديات السوق، مثل روسيا والصين والهند، والبقية الباقية من النظم الاشتراكية لا تمتلك مقومات أن تنافس منظومة العولمة الاقتصادية، ولا يمثل صمود هذه البلدان الاشتراكية القليلة سوى صمود نظمها السياسية وإصرارها على المواجهة في ظل أزمات اقتصادية داخلية حادة، مثل كوبا وكوريا الشمالية.
راهن النظام الليبي عدة مرات على المشروعات الإقليمية، فبدأ بالمشروع العربي والذي كانت ثماره محدودة إن لم تكن معدومة من حيث قدرته على أن يكون بديلا للنظام الاقتصادي الرأسمالي، ثم المشروع الإفريقي والذي تتنازعه العديد من مقومات الفشل بسبب المشكلات الاقتصادية الخانقة أو وجود النظم الديكتاتورية التي تحول دون نجاح أي نظام اقتصادي، فضلا عن أن هذه المشروعات الإقليمية نفسها ترتضي نظام اقتصاديات السوق منهجا لتكاملها أو تعاونها في المجال الاقتصادي، كما أن كلا المشروعين العربي والإفريقي اعتمد على مجرد الأحلام والقفز على واقع يعاني مشكلات متفاقمة تقتضي معالجات وتستغرق وقتا طويلا، وليس الولايات المتحدة الإفريقية كما يتمنى العقيد القذافي.
وحتى تنجح التجربة الليبية في التحول نحو اقتصاديات السوق فإنها تحتاج، مثل بقية التجارب العربية والبلدان النامية، إلى نوع من التهيئة والتدرج بما يجعل للقطاع الخاص المحلي دورا فعالا وحقيقيا بحيث يكون له دور تنموي.
كما أن مشروعات الإصلاح الاقتصادي يجب أن تكون مقرونة بمشروعات إصلاح شاملة على الصعيد السياسي والتشريعي والاجتماعي، وأن يكون هناك نوع من التوازن في توزيع الثروة بين فئات المجتمع، مع مراعاة أن الآثار السلبية للفترة الماضية يجب أن تؤخذ في الاعتبار بالنسبة لتطوير إمكانيات موظفي الحكومة وتأهيل العاطلين عن العمل، وتواكب التوجهات السياسية، والأهم في هذا المضمار أن يحقق مشروع التحول لاقتصاديات السوق النجاح في تحدي وجود اقتصاد متنوع لا يعتمد على النفط بدرجة كبيرة.