لم يعد من الغريب أن تفاجئنا القيادة الليبية بقرارات وأفعال تخرج عن نطاق المنطق والمعقول.. فبعد أن أعلنت وللعام الثاني على التوالي عن مخالفة العالم الإسلامي في موعد وقفة عرفات، تستعد مع مطلع عام 2009 لتطبيق سياسة هي الأغرب يتم بمقتضاها تفكيك معظم الوزارات، مع الإبقاء -فقط- على أربع.. هي (الدفاع، الأمن، العدالة، الخارجية)، على أن يتم توزيع عوائد النفط على المواطنين.
وكان مبرر العقيد القذافي لإعلان هذا التوجه أن سيطرة الدولة على الاقتصاد نتج عنها سرقات وفساد، وأن ليبيا سوف تشجع على إنشاء شركات القطاع الخاص، وحسب تصريحاته فإن الفترة الأولى لهذه السياسة الجديدة سوف تشهد نوعا من الفوضى.
وعلى ما يبدو من تصريحات القذافي فإن هذا الاتجاه الذي يمكن تسميته بـ"الدولة الحارسة" سيفرغ الدولة من مسئولياتها ويقصر دورها على الأعمال السيادية مثل العدالة والأمن الداخلي والخارجي والتمثيل الدبلوماسي، وهو ما يأتي مخالفا للتطور الكبير في دور الدولة اقتصاديًّا واجتماعيًّا خلال القرن الماضي، والذي أصبح من الصعوبة بمكان الاستغناء عنه حتى في أعتى الدول الرأسمالية، حيث تتاح فرص الحماية الاقتصادية والاجتماعية لأفراد المجتمع (تأمينات ضد البطالة، نظم التأمين الصحي، نظم التدريب وإعادة التأهيل الوظيفي، الإعانات الاجتماعية... إلخ)، وكذلك حضور قوي لوزارات ومؤسسات عدة، وفي كثير من الأحيان تتدخل الدولة عبر قياداتها السياسية لدعم شركاتها للفوز بصفقات في بلدان أخرى.
كما أنه يأتي في توقيت غريب، حيث ينادي الخبراء بمزيد من تدخل الدولة في الاقتصاد للتعامل مع الأزمة المالية العالمية، وهو الأمر الذي حدث بشكل كبير في أمريكا معقل الرأسمالية.
وبعيدا عن هذه الرؤية المبدئية لتوقيت القرار الليبي، فإن التطبيق يثير كثير من التساؤلات التي هي في الواقع تشكل تحديات لم تعلن القيادة الليبية عن كيفية التعامل معها، والتي قد تشكل "دحديرة" كبيرة سيقع فيها الاقتصاد الليبي.
فوفقا لبيانات التقرير السنوي لمصرف ليبيا المركزي، فإن حجم الإنفاق العام في عام 2006 بلغ 23.7 مليار دينار (الدولار الأمريكي يعادل 1.2 دينار)، وتتكون الموازنة الليبية في جانب الإنفاق من شقين، الأول وهو ما يخص النفقات التسييرية ( النفقات الجارية) وقد بلغ هذا الإنفاق في عام 2006 نحو 8.8 مليارات دينار، والشق الآخر يخص نفقات التحول (النفقات الاستثمارية) وقد بلغ في نفس العام نحو 14.9 مليار دينار.
واللافت للنظر، هو تدني نصيب الوزارات التي ستتكون منها الحكومة الليبية في مطلع عام 2009 (الدفاع، الأمن، العدالة، الخارجية)، فحسب تقرير البنك المركزي يبلغ نصيب هذه الوزرات الأربع في موازنة عام 2006 نحو 1.9 مليار دينار.
فهل سيتم توزيع باقي مخصصات الإنفاق في الموازنة الليبية والبالغة 21.8 مليار دينار على أفراد المجتمع الليبي لتسيير شئونهم الجارية والاستثمارية؟
إذا كان التوجه الليبي هو إعطاء مساحات واسعة للقطاع الخاص في مجال الاستثمار، فمن سيتولى أمر إنفاق نحو 14.9 مليار دينار والخاصة بالنفقات الاستثمارية، في ضوء إلغاء الوزرات الآتية ( المالية، السياحة، الاقتصاد والتجارة، التخطيط، القوى العاملة والتدريب، الطاقة، الشباب والرياضة، الثقافة، الكهرباء)؟
كما أن عوائد الضرائب والجمارك معضلة أخرى، فالأدبيات الاقتصادية الخاصة بالدولة الحارسة، لا تفرض من الضرائب على أفراد المجتمع إلا بما يعادل نفقاتها الضيقة. ولم يتم فرض الضرائب إلا في ظل تطور دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، لتغطية متطلبات هذا الدور.
ومن خلال بيانات الموازنة الليبية نجد أن عوائد الضرائب والجمارك تمثل الرافد الثاني بعد العوائد النفطية فبلغت قيمة العوائد الضريبة نحو مليار دينار، والعوائد الجمركية نحو 660 مليون دينار. وإذا ما افترضنا هذا في ضوء الإيرادات الضريبية والجمركية فإن الموازنة الليبية لن تتعدى نحو 1.7 مليار دينار إيرادات، ونحو 1.8 مليار نفقات. وذلك بفرض أن عوائد النفط والتي تمثل نحو 75.1% من الإيرادات الحكومية سوف يتم توزيعها على أفراد الشعب الليبي بشكل مباشر.
التطبيق بهذه الطريقة يستلزم شيئا من التفكير، فالأمر يتعلق بمستقبل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلد نام، لم ير مظاهر تقدم اقتصادي منذ أربعة عقود على الرغم من تدفق عوائد النفط بكميات هائلة، حيث إن النشاط الإنتاجي يعاني من ضعف شديد وتعتمد ليبيا بشكل كبير في تلبية احتياجاتها الإنتاجية على الاستيراد، ويظهر هذا من خلال أمرين؛ الأول طبيعة مكون الناتج المحلي الإجمالي حيث يمثل النفط فيه نسبة 30.8%، يليه قطاع الخدمات (التعليم والصحة) 15.9%، ثم الزراعة 8%، ثم الصناعة التحويلية بنسبة 3.5%.أما الأمر الثاني فهو طبيعة الصادرات والواردات الليبية حيث يمثل النفط 97% من الصادرات الليبية البالغة نحو 31 مليار دينار، وبخصوص الواردات والتي بلغت نحو 8 مليارات دينار، فتمثل العدد والآلات ومعدات النقل 47.6% والسلع الصناعية 20.7% والسلع الغذائية والحيوانات الحية 14.8%.
ومن خلال ما سبق فإن هناك بعض الأمور التي يجب دراستها عند تطبيق هذا التوجه:
• مراعاة الآثار السلبية للفترة الانتقالية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يتطلب بشكل كبير وجود مؤسسات الدولة، ليكون دورها رقابة الأسواق، ورصد التطورات الإيجابية والسلبية في قضايا الفقر والبطالة، والتي عرفتها معظم النماذج في الدول المتقدمة والنامية على السواء.
• من أبجديات السوق الرأسمالي وجود المؤسسات التي تمنح التراخيص، وتنظم عمل النشاط الاقتصادي، وليس إلغاؤها، وهذا بدوره يقودنا إلى أهمية وجود برلمانات وأجهزة رقابية شعبية حقيقية تأتي بانتخابات حرة ونزيهة، ونحسب أن تجربة ليبيا في هذا المجال ضعيفة إن لم تكن موجودة.
• إن وجود فساد في أجهزة الدولة، أمر تعرفه جميع الدول، المتقدمة منها والنامية، ولكن الفارق يبقى في طريقة التعامل مع هذا الفساد من حيث مواجهته والتقليل من حجمه، واللافت في الحالة الليبية هو وجود نظام العقيد القذافي منذ نحو أربعة عقود، ومعظم من تولى أمور المؤسسات داخل الدولة هم من يدينون بالولاء لهذا النظام، وبالتالي كان أحرى بالنظام الليبي أن يكثف من عمليات مواجهة الفساد والتخلي عن قاعدة "تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة" التي تتبعها معظم حكومات الدول النامية.
• على ما يبدو فإن النظام الليبي سوف يطبق نظاما رأسماليا لم تعرفه الدول الرأسمالية، والتي تبقي على مؤسساتها وتطورها، وليس العودة للوراء، لوجود نظام الدولة الحارسة، والذي لم يعد لوجوده مبررات واقعية.
• لم نعرف بعد ما هو التأهيل الذي ناله القطاع الخاص الليبي، والصناعة الليبية وغيرها من القطاعات الاقتصادية، بحيث يمكنها منافسة الاستثمارات الأجنبية والتي بدأت في الزحف نحو ليبيا، ومنها الاستثمارات الأمريكية والإيطالية والفرنسية وغيرها.
• ولم يعرف بعد من سيكون المسئول عن إدارة شئون الاقتصاد، في ظل النظام المرتقب، ولا من ينسق سياسات التعليم بحيث تكون مخرجات التعليم متوافقة مع سوق العمل، فحسب تصريحات الرئيس القذافي بأنه سيعطي الناس عوائد النفط ليعلموا أولادهم كيفما شاءوا. وتشير بيانات موازنة عام 2006، أن مخصصات التعليم العالي تبلغ 509.2 ملايين دينار، منها 380 مليون مرتبات و129.2 مليون مصروفات عمومية. فهل في ظل توزيع مخصصات التعليم مثلا على الأفراد سيعاد النظر في مقدار وطبيعة رواتب العاملين بالجامعات، وإذا ما قرر الأفراد الاستغناء عن التعليم في الجامعات الليبية والاستعانة بجامعات أجنبية أو السفر للتعليم بالخارج، فما هو مصير الأساتذة الليبيين في الأجل القصير؟ وما مصير منظومة البحث العلمي في ضوء هذه العلاقة المبهمة؟
تظل التجربة الليبية في المجال الاقتصادي في المرحلة القادمة يحوطها الكثير من الغموض، نظرا لافتقادها للمؤسسية، ولا يعني هذا الدعوة إلى الاقتصاد الموجه وسيطرة الدولة على المقدرات الاقتصادية، ولكن المطلوب الوسطية الاقتصادية التي تراعي طبيعة الفترة الماضية التي عاشها المجتمع الليبي، وما يتطلبه ذلك من وجود فترة انتقالية طويلة إلى حد ما تسمح بالتفاعل الإيجابي مع اقتصاد السوق، وليس ما يطرحه الرئيس القذافي بوجود الدولة الحارسة.
ولكن يبقى التطبيق العملي لدور الدولة الحارسة في المجال الاقتصادي بليبيا هو الكاشف عن مضمون إعلان الرئيس الليبي، ولكن كما يقول المثل العربي، "الأيام حبلى يلدن كل عجيبة".
ويظل التوجه الليبي محل شك بعد الأزمة المالية العالمية التي عصفت بأعتى النظم الرأسمالية والتي لجأت للتأميم في الوقت الذي لا يزال فيه نظم عربية تنادي بالخصخصة والعودة لدور الدولة الحارسة.