أداء كل من سعر الصرف وسعر الفائدة غير طبيعي وغير مبرر عند ربطه باقتصاد حقيقي قوي تتمتع به تركيا.
لا بد من توازن أداء السياسة الاقتصادية والعمل على معالجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي أوجدت هذا الخلل الحقيقي في أداء العملة التركية.
يحارب أردوغان ارتفاع سعر الفائدة، وكثيرًا ما يقارن وضع بلاده بدول باقي دول مجموعة العشرين، التي تتمتع بسعر فائدة شديد الانخفاض.
لا تفسير للتضخم والبطالة وهبوط سعر الليرة سوى عدم اتساق أداء السياسة النقدية مع باقي مكونات السياسة الاقتصادية من سياسات التجارة والاستثمار والتوظيف.
مطلوب مراجعة السياسات المتعلقة باقتراض القطاع الخاص من الخارج وخفض اقتراضه لقروض قصيرة الأجل لا تتناسب مع طبيعة أدائها التمويلي ونشاطها الاقتصادي.
آفة الاقتراض الخارجي كانت سببًا رئيسيًا في أزمة جنوب شرق آسيا في 1997 وأدى إلى ممارسة البنوك المركزية صلاحيات كبيرة عملت على تقييد اقتراض القطاع الخاص من الخارج.
* * *
ما الذي يحدث في تركيا بشأن انهيار سعر صرف عملتها؟ سؤال يطرح نفسه على أكثر من صعيد، وبخاصة أن مؤشرات الاقتصاد الحقيقي إيجابية من حيث ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، أو الاتجاه الصعودي للصادرات السلعية، أو أداء القطاع الصناعي، أو الأداء التكنولوجي المتقدم في مجال الصناعات الدفاعية.
ولكن على صعيد آخر، فإن المؤشرات الاجتماعية، من بطالة وتضخم، في ارتفاع ملحوظ، فالتضخم عند نسبة 20% على أساس سنوي، والبطالة أعلى من نسبة 12%، كما أن سعر صرف الليرة يشهد هبوطاً جنونياً..
وليس هناك من تفسير سوى عدم اتساق أداء السياسة النقدية مع باقي مكونات السياسة الاقتصادية، من سياسة تجارية، وسياسة استثمارية، وسياسة التوظيف.
قد تكون مُفهومة زيادة معدلات التضخم بسبب ارتفاع أسعار الطاقة في السوق الدولية، أعلى من 80 دولار للبرميل، إذ إن تركيا دولة مستوردة للنفط بنسبة كبيرة، ولكن سبب ذلك في ارتفاع معدلات التضخم يكون محدوداً.
أما النسبة الكبرى في ارتفاع معدل التضخم فترجع إلى انخفاض قيمة العملة، وهو ما أدى إلى حالة من عدم الرضا في الشارع التركي، فأسعار السلع تزيد خلال فترات قصيرة جدًا.
من الخطأ تسليم زمام قيادة السياسة الاقتصادية لأي دولة ليد أحد مكوناتها الفرعية، أيًا كانت، ولكن يلاحظ في منطقة الشرق الأوسط أن الأمور تسلم لقيادة البنك المركزي صانع السياسة النقدية لتسيير أوضاع السياسة الاقتصادية، دون تنسيق مع باقي مكونات السياسة الاقتصادية.
لذلك وجدنا هذه التصرفات المتعجلة، والتي يمكن أن نسميها العلاج بالصدمة، كما حدث لرفع سعر الفائدة في سبتمبر 2018 ليصل إلى 24%، بعد أن كان بحدود 8% في نوفمبر 2016، ثم هبط إلى 8.25% في سبتمبر 2020، ثم ارتفع إلى 19% في مارس 2021، وحاليًا أصبح سعر الفائدة عند معدل 15%، بعد قرار لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي في 18 نوفمبر 2021، وحسب قراءات الواقع، فالنية معقودة على خفض سعر الفائدة.
والمتابع للشأن الاقتصادي التركي، يلاحظ أن أداء كل من سعر الصرف وسعر الفائدة غير طبيعي، وغير مبرر، عند ربطه باقتصاد حقيقي قوي، تتمتع به تركيا. وهذا الواقع أوجد حالة من الارتباك لدى بعض قطاعات المستثمرين، الذين يراهنون على الأجل القصير، وبخاصة أولئك المستثمرين العرب أو الإيرانيين الذين يتجهون للمضاربة في مجال العقارات، أو الاستفادة من فروق سعر العملة، أو الاستفادة من سعر الفائدة المرتفع بالجهاز المصرفي التركي.
ثمة محور مهم يتم التركيز عليه عند تناول البعض الشأن الاقتصادي التركي، وبخاصة سعر الصرف، وما يتعلق به من تغيرات نالت من محافظي البنك المركزي التركي، حيث لجأ الرئيس أردوغان إلى استخدام صلاحياته الدستورية في إقالة محافظ البنك المركزي.
وجهة النظر التي يتبنها الرئيس التركي، والتي يعلنها في أكثر من مناسبة هي أن ارتفاع سعر الفائدة ليس في صالح الاقتصاد الحقيقي، وأن الاقتصاد المالي والنقدي على الرغم من أهميته، إلا أنه ليس في صالح اقتصاد البلاد.
فارتفاع سعر الفائدة يعمل على تكدس الأموال في البنوك، ويحرم منها المستثمرين، ويحد من وجود مشروعات جديدة، ويمنع توسع المشروعات الإنتاجية القائمة، لذلك يحارب أردوغان ارتفاع سعر الفائدة، وكثيرًا ما يقارن وضع بلاده بدول باقي دول مجموعة العشرين، التي تتمتع بسعر فائدة شديد الانخفاض، يتراوح في بعضها ما بين صفر و1%.
وآخر تصريحات الرئيس أردوغان تجاه سعر الفائدة كان يوم الأربعاء 17 نوفمبر 2021، أمام الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، حيث قال إن "حكومته عازمة على إزالة آفة الفائدة المرتفعة عن عاتق شعبها"، وهو ما أدى إلى تراجع سعر الليرة أمام الدولار عقب هذا الاجتماع، وتبعه قرار البنك المركزي الخميس 18 نوفمبر 2021، بخفض سعر الفائدة عند مستوى 15%، مما أدى لتجاوز سعر صرف الدولار 11 ليرة.
لا شك في أن خفض سعر الفائدة يحقق العديد من المزايا الاقتصادية، في ظل اقتصاد يعتمد على الائتمان بشكل كبير، في المجتمع التركي، سواء بالنسبة للمستهلكين أو المستثمرين، ولكن ما الذي يمكن أن تؤديه السلطات الاقتصادية من إجرءات وسياسات لتنجح توجهات أردوغان بخفض سعر الفائدة.
أولًا: التدرج، فيما يتعلق بالانتقال من آلية الديون وسعر الفائدة إلى آلية المشاركة، وأدوات الاستثمار التي تخدم الاقتصاد الحقيقي، بعيدًا عن مضاربات البورصات وسعر الفائدة، أو المضاربة على العقارات، فالتدرج مهم جدًا، لحين تهيئة الأجواء لانتقال طبيعي، وقد يستغرق ذلك بعض الوقت.
ثانيًا: تشجيع تكوين الشركات المساهمة، بعيدًا عن الشركات العائلية، حتى يجد الناس بديًلا لاستثمار أموالهم، خارج القيود البنكية، وبحثًا عن استثمار حقيقي، يسمح لهم بتسييل أصولهم عند الحاجة، وفي نفس الوقت وجود هذه الشركات، يساعد على امتصاص الأموال من أسواق المضاربة على العقارات والعملات وغيرها، ولكن هذا يستلزم وضع قوانين جديدة لتعامل البورصات، لتحد من المضاربات.
ثالثًا: وجود تنسيقي حقيقي وفعلي بين مكونات السياسة الاقتصادية، ففي حالة اتخاذ البنك المركزي لقرارات تتعلق بباقي المكونات الأخرى، لا بد من التنسيق مع المنظمات المعنية بالاستثمار والتجارة والتوظيف، وكذلك مراعاة مصالح المدخرين.
رابعًا: وجود رقابة حقيقية على دخول وخروج الأموال الساخنة من البلاد، وهذا ليس بالأمر الجديد في عالم الاقتصاد، فالرئيس الأميركي السابق أوباما عندما اتخذ قراره بضخ 600 مليار دولار في السوق في عام 2010، لشراء السندات الحكومية، اتجه جزء من هذه الأموال للاستثمار في بورصات الدول الصاعدة.
ولكن هذه الدول اتخذت ما سمي بسياسة التعقيم، أي فرض ضرائب على هذه الأموال في حالة خروجها في الأجل القصير، أما إذا بقيت للأجل المتوسط والطويل فتعفى من الضرائب، وبذلك حمت هذه الدول اقتصادياتها من ارتفاع معدلات التضخم، أو اللعب بسعر صرف عملاتها.
خامسًا: رقابة السوق المحلي من التعاملات غير القانونية التي تعمل في إطار المضاربة على سعر الصرف، وكذلك الأموال الأجنبية التي تدخل البلاد بصورة غير قانونية، وتؤدي إلى اضطرابات في سوق الصرف، وإرباك الأوضاع الاقتصادية والسياسية بالبلاد.
لا يوجد قرار أو تصرف اقتصادي إيجابي لا تكون له آثار جانبية سلبية، فتضحية تركيا بسعر صرف عملاتها وتركه لعواصف داخلية، من أجل الاستثمار والاقتصاد الحقيقي، وأن التذرع بأن خفض سعر الصرف أدى إلى زيادة الصادرات، فهذه المسلمة، والنتيجة الإيجابية لها حدود، ولا يستطيع المنتجون أن يسايروها إلى ما لا نهاية، فسيأتي وقت وتخرج الأمور عن السيطرة، وتفقد الصادرات هذه الميزة.
لذلك لا بد من التوازن في أداء السياسة الاقتصادية، والعمل على معالجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي أوجدت هذا الخلل الحقيقي في أداء العملة التركية.
ويتطلب هذا مراجعة السياسات المتعلقة بحق شركات القطاع الخاص في الاقتراض من الخارج، والحد من اقتراض هذه الشركات لقروض قصيرة الأجل، لا تتناسب مع طبيعة أدائها التمويلي ونشاطها الاقتصادي، فهذه الآفة كانت سببًا رئيسيًا في أزمة جنوب شرق آسيا في عام 1997، وأدى ذلك إلى ممارسة البنك المركزي هناك لصلاحيات كبيرة، عملت على تقيد هذه الشركات في الاقتراض من الخارج.