سيكون لنتائج التحقيقات الخاصة بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا يوليو/تموز 2016 ما بعدها، وبخاصة تلك المرتبطة بتورط بعض الدول في دعم هذه المحاولة، سواء فيما يتعلق برد تركيا من خلال إعادة النظر في علاقاتها ببعض البلدان المتورطة، أو سعي هذه الدول مستقبلا في استمرار مسلسل عدائها لتركيا، بالتأثير سلبا عبر المعاملات الاقتصادية والمالية.
ترددت أسماء بعض البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية في دعم محاولة الانقلاب الفاشلة، أو على الأقل علمهم بها قبل وقوعها، وإن كانت تلك الدول قد حرصت على نفي أية أدوار لها في دعم محاولة الانقلاب.
ومن المعلوم أن الاتحاد الأوروبي يمثل عصب تعاملات تركيا الخارجية، كما أن تركيا كانت تحرص على استكمال إجراءات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، بل إن البعض كان يزكي أن تكون تركيا بديلا لبريطانيا بعد نتيجة الاستفتاء بخروجها من الاتحاد الأوروبي.
وحسب بيانات معهد الإحصاء التركي لعام 2015 فإن ألمانيا تمثل الشريك التجاري الأول لتركيا، بحجم تبادل تجاري يصل إلى 34.7 مليار دولار، منها صادرات ألمانية إلى تركيا تصل إلى 21.3 مليار دولار، وتستورد ألمانيا من تركيا ما قيمته 13.4 مليار دولار، وتمتد هذه العلاقة مع دول أوروبية أخرى مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وإن كانت الصين تمثل رقمًا مهما على قائمة الواردات التركية، حيث تقدمت على ألمانيا عام 2015.
كما تأتي أوروبا على قائمة الدول المصدرة لرؤوس الأموال الأجنبية، فبيانات عامي 2014 و2015 تشير إلى أن دول أوروبا قدمت إلى تركيا ما نسبته 50.3% و39.3% على التوالي من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وعلى الصعيد السياحي فإن السياحة الأوروبية لا تزال تمثل الرقم المهم في معادلة السياحة التركية.
ولكن الأيام القادمة قد تسفر عن وجود تغير في علاقات تركيا الاقتصادية الدولية، سواء كان ذلك من خلالها، أو من خلال الأطراف الأخرى، فقد تحرص الدول الأوروبية وأميركا على فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي المقابل قد تسعى تركيا إلى تعميق إستراتيجيتها المعتمدة منذ بداية نهضتها الاقتصادية بعدم تركز علاقاتها الاقتصادية والتوجه شرقا.
إذا ما اتخذت الدول الأوروبية وأميركا مسار فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، بحجة الإجراءات التي أعلنت عنها تركيا تجاه الانقلابيين، أو ما تسميه "الكيان الموازي"، والاستمرار في مشروعها المسمى بـ"التطهير"، فإننا نتوقع ألا يكون ذلك بالأمر السهل، وذلك للأسباب الآتية:
أولا: بنية الاقتصاد التركي تتسم بالقوة حيث إنه يجمع بين إنتاج السلع والخدمات، ولديه مساهمة قوية في الصناعات التحويلية، ويظهر ذلك بجلاء في الصادرات، حيث تصل الصادرات الصناعية إلى 85% من صادرات تركيا.
ثانيا: تتمتع تركيا باكتفاء ذاتي في الغذاء والسلع الزراعية، بل تساهم الزراعة بجزء من الصادرات التركية. وقد أظهرت الحكومة التركية قدرة اقتصادية عقب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، مكنتها من مواجهة التداعيات السلبية بأقل خسائر ممكنة، فلم تغلق البنوك ولا البورصة.
وإن كانت العملة التركية تعرضت لانخفاض أمام الدولار بنسبة محدودة وصلت نحو 3.5%، وكذلك انخفض مؤشر البورصة العام بنحو 5%، ولكنها معدلات شهدتها تركيا أثناء مرورها بأزمات سياسية على مدار عام 2015، بسبب الانتخابات البرلمانية، ثم تحسنت تلك المؤشرات مرة أخرى، وهو ما يعني أن التداعيات الاقتصادية السلبية لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة محدودة، ويمكن السيطرة عليها.
ثالثا: حرصت تركيا كذلك على توطين وإنتاج التكنولوجيا، من خلال ربط تجربتها التنموية بمراكز البحوث والجامعات، بل إن الشركات القابضة تتبنى تطوير نفسها من خلال إنشاء الجامعات ومراكز البحوث الخاصة بها.
مما سيمكن تركيا من مواجهة أية عمليات لحجب التكنولوجيا، فضلا عن أن متطلبات التنمية في المرحلة الحالية لتركيا تساعدها على استقدام التكنولوجيا من الدول الصاعدة بدل التكنولوجيا الغربية أو الأميركية، وبخاصة أن الصادرات التركية لم تدخل بعد مركز الصادرات العالية التكنولوجيا.
رابعا: بالنظر إلى تجربة تركيا في الاستثمارات الأجنبية أو في الدين الخارجي، نجد أن تركيا أوجدت مصالح مشتركة قوية من الناحية الاقتصادية مع أوروبا، بحيث لا يمكن الاستثمارات الأوروبية أن تستغني عن تركيا، ولا يمكن تركيا أن تستغني عن الاستثمارات الأوروبية.
فعلى صعيد الاستثمارات الأجنبية في تركيا نجد أنها تتركز بشكل رئيس في الصناعة بنسبة تصل إلى 36.2%، والخدمات بنسبة 30.7%، ثم تأتي بعد ذلك الزراعة وقطاع الإنشاءات والعقارات، وذلك حسب بيانات عام 2015. أما على صعيد الديون المستحقة للخارج على تركيا فنجد أن نسبة41.4% منها على القطاع الخاص التركي، وهو ما يجعل الغرب الذي يمثل الجانب الأكبر من الدول الدائنة لتركيا حريص على استرداد أمواله، بما لا يؤدي إلى خلل في عمليات السداد، والوفاء بأعباء تلك الديون.
خامسا: إن للغرب مصالح اقتصادية أخرى كثيرة في تركيا، حيث تعتبر تركيا الممر الآمن للغاز الطبيعي من دول القوقاز إلى أوروبا، وبخاصة بعد أزمة أوروبا وأميركا مع روسيا، واستخدام روسيا الغاز الطبيعي ورقة ضغط في إدارة الصراع، وهو الأمر الذي سيضعف سيناريو فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، من قبل أميركا والغرب.
حتى لو أصرت الدول الغربية وأميركا على إعاقة النشاط الاقتصادي لتركيا، فإن البديل أمام تركيا يفتح مجالات أكبر نحو دول أميركا اللاتينية، ومجموعة البريكس، وكذلك بعض الدول العربية الحليفة لتركيا، وبخاصة الخليجية منها كقطر.
حيث يفترض أن يكون لقطر دور مهم بالنسبة لتركيا خلال الفترة القادمة، من خلال مد تركيا ببعض الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، بما يقوي موقفها في مواجهة محاولات استخدام ورقة الاستثمارات أداة ضغط في إدارة اللعبة السياسية.
وبإمكان تركيا أن تزيد من حجم توجه علاقاتها الاقتصادية والمالية نحو الصين وأفريقيا ودول الآسيان، ولا يخفى على المتابع للشأن الاقتصادي الدولي ما يدور من صراع الصين مع أميركا والغرب حول ريادة النظام الاقتصادي العالمي. وقد استخدمت آلية التهديد بتغيير الوجهة الاقتصادية نحو روسيا، من قبل اليونان بشكل ملموس للخروج من ضغوط الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي إبان أزمتها المالية، مما ساعد على سحب صندوق النقد الدولي وأوروبا التهديد بإعلان إفلاس اليونان.
ومما يقوي موقف تركيا في تغيير وجهتها الاقتصادية قوة اقتصادها، وكونها ضمن مجموعة العشرين، حيث تعطيها هذه العضوية مساحات للمناورة داخل المجموعة بالتأثير في التوجهات الخاصة بالسياسات المالية والاقتصادية، سواء بما يؤدي إلى استفادتها بشكل أكبر، أو بانحيازها لصالح الأطراف التي تتبنى وجهات نظر تخالف أميركا والدول الأوروبية.
ستجد الأطراف الخارجية أن تركيا ستتمكن من الانطلاق بشكل أفضل في ظل تخلصها من أعباء الكيان الموازي، الذي كان يعيق انطلاقها في الفترة الماضية، وكذلك ستستفيد بشكل كبير من إزاحة سيطرة الجيش على بعض الأمور الاقتصادية.
ومن ثم فسيكون السيناريو المحتمل هو أن تبتعد تلك الدول عن التفكير في العقوبات المباشرة، وستلجأ إلى استخدام المعوقات الأخرى، وفق حالة الاستقرار التي ستصل إليها تركيا خلال المرحلة المقبلة، وهي احتمالات قوية حيث تحظى الحكومة التركية الحالية بتأييد شعبي واسع، يمكنها من تنفيذ برنامجها الخاص بالتطهير وإعادة بناء أجهزة الدولة ومؤسساتها بشكل كبير