يمر الاقتصاد التركي بفترة استثنائية، كباقي دول العالم في ظل أزمة جائحة كورونا، فقد تضرر بشكل كبير بسبب توقف قطاع السياحة، الذي كان يدر إيرادات سنوية بنحو 40 مليار دولار، فضلا عن الخسائر التي لحقت بقطاع الطيران، وكذلك باقي المنشآت السياحية.
وألقت هذه العوامل الاقتصادية، بالإضافة إلى عوامل سياسية تمر بها تركيا، بظلالها السلبية على قيمة العملة المحلية، مما ساهم في انخفاض قيمتها أمام العملات الأجنبية على مدار أشهر عام 2020، لتفقد نحو 25% من قيمتها، وإن كانت العوامل السياسية الخارجية لها التأثير الأكبر في انخفاض قيمة العملة المحلية التركية.
أدى انخفاض قيمة العملة التركية خلال أشهر 2020، وما صحبه من تأثيرات سلبية على الأوضاع النقدية والمالية، إلى إقالة محافظ البنك المركزي، وكذلك وزير المالية، ولمواجهة المشكلة، قرر البنك المركزي التركي رفع سعر الفائدة إلى 15% يوم الخميس الموافق 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
وبذلك أصبح سعر الفائدة على قروض البنوك في تركيا هو الأعلى بين دول المنطقة، بوصوله إلى 15%، بعد أن كان بحدود 10.25%، ومن الطبيعي أن تتجه قرارات المدخرين المحليين ومستثمري الخارج للاستفادة من هذه الفرصة، وإيداع أموالهم بالمصارف وأدوات الدين المحلي للحكومة التركية.
ففي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، كانت أسعار الفائدة على أذون الخزانة المصرية لمدة 90 يوما، بحدود 13.1%، وكون تركيا ترفع سعر الفائدة إلى 15%، فيتوقع أن تغير الأموال الساخنة وجهتها إلى تركيا خلال الفترة القادمة، لتجني ثمار الفارق بين سعر الفائدة في البلدين.
وقد أدى قرار البنك المركزي التركي برفع سعر الفائدة، إلى رفع قيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، ليصل إلى 7.59 ليرات للدولار الخميس الماضي، ومتوقع أن يشهد سعر صرف الليرة حالة من الاستقرار عند هذا السعر، أو قد يستمر في الارتفاع أمام العملات الأجنبية، إذا ما استمرت السياسة النقدية في البقاء على سعر الفائدة على ما هو عليه عند نسبة 15%، أو اتجهت لمزيد من الارتفاع.
ولا يعد السعر الحالي للفائدة هو الأعلى في أداء السياسة النقدية لتركيا، ففي سبتمبر/أيلول 2018، وصل سعر الفائدة إلى 24%، وهو ما جعل المدخرين بالعملة المحلية يهربون من أسواق الاستثمار المباشر، ويكدسون أموالهم لدى المصارف.
يذكر أن هذا السعر المرتفع للفائدة يخص فقط الودائع بالعملة المحلية، بينما تبقى الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية منخفضة لا تتجاوز نسبة 2.5%.
وتعد سياسة رفع سعر الفائدة لمعالجة انخفاض قيمة العملة المحلية، واحدة من السياسات البارزة في إطار النظام الرأسمالي، ولكن لا يعني ذلك أنها سياسة ناجعة، فصانع السياسة النقدية يستهدف من رفع سعر الفائدة، عدة أمور منها: سحب النقود الزائدة من يد الأفراد، من خلال ترغيبهم في الادخار عند سعر الفائدة العالي، وكذلك مواجهة ظاهرة الدولرة أو شراء الذهب، حيث يجد المدخرون أن لدى المصارف عائد يفوق احتفاظهم بمدخراتهم من خلال العملات الأجنبية أو شراء الذهب.
وبلا شك أن استقرار سعر الصرف من المتطلبات المهمة لمناخ الاستثمار في أي دولة، ولكن ما هو الثمن الذي سيدفعه الاقتصاد التركي نظير استخدام سعر الفائدة لرفع قيمة العملة المحلية، أو استقرار سعر الصرف؟
ثمة مجموعة من المخاطر تكتنف سياسة أن يقود سعر الفائدة مقدرات الاقتصاد التركي، وبخاصة إذا كنا أمام اقتصاد يمتلك مقومات إنتاجية قوية، وبخاصة في قطاعي الزراعة والصناعة، بل وفي القطاع الخدمي، كذلك عبر قطاعي السياحة والرعاية الصحية، وفيما يلي نتناول هذه المخاطر.
قرار البنك المركزي التركي برفع سعر الفائدة أدى إلى رفع قيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية (رويترز)
الأصل أن يكون الاقتصاد المالي والنقدي في خدمة الاقتصاد الإنتاجي، ولكن في ظل زيادة رفع سعر الفائدة، فسيكون السلوك الطبيعي للأفراد والمؤسسات هو الابتعاد عن الاقتصاد الإنتاجي، بسبب انخفاض العائد منه، وبذلك سيكون صانع السياسة الاقتصادية في تركيا بين فكي رحى، إما يستجيب لرفع سعر الفائدة، ويحد من انطلاق الاقتصاد الإنتاجي، أو يخضع لرغبات المضاربين على سعر العملة المحلية
حسب الأرقام المعلنة من قبل معهد الإحصاء التركي، بلغ معدل البطالة في أغسطس/آب 2020 نحو 13.2%، وهو معدل مرتفع بلا شك، وسياسة رفع سعر الفائدة التي تبنها البنك المركزي التركي مؤخرا، سوف ترفع تكلفة الاستثمار من جهة، ومن جهة أخرى ستساعد الأفراد على إيداع أموالهم بالبنوك، وعدم التوجه للاستثمار، مما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة.
سوف تساعد سياسة رفع سعر الفائدة على سحب السيولة من يد المدخرين، من خلال تشجيعهم على الادخار بالبنوك، وهو ما يساعد على خفض معدلات التضخم من جانب الطلب، ولكن على الجانب الآخر، سترتفع تكاليف الإنتاج، وهو ما سيؤدي إلى رفع سعر السلع والخدمات، أي رفع معدل التضخم من جانب العرض، لأن المنتجين يعتمدون على التمويل البنكي بشكل كبير، وبخاصة في اقتصاد رأسمالي مثل تركيا.
بلغ الدين الحكومي التركي في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 نحو 137.9 مليار دولار، يسيطر الدائنون المحليون على غالبية هذا الدين بنسبة كبيرة تصل إلى 95%، حيث خرجت أموال الأجانب من الدين العام التركي في عام 2019 بعد انخفاض سعر الفائدة إلى أقل من 9%.
وفي ظل قرار البنك المركزي التركي برفع سعر الفائدة إلى 15%، سيكلف ذلك موازنة الدولة بأعباء أكبر للدين المستحق عليها، وسيكون ارتفاع أعباء الدين بالموازنة في عام 2021، خصما من الإنفاق على قطاعات حيوية تتعلق بالتعليم والصحة وباقي القطاعات المهمة.
السلوك الطبيعي بعد رفع سعر الفائدة في الجهاز المصرفي التركي، أن تحدث حالة من الهروب من البورصة والتوجه للبنوك للحصول على عائد أفضل، وكانت البورصة التركية في عام 2019 قد شهدت تحسنا كبيرا في ظل انخفاض سعر الفائدة، لأن المدخرين وجدوا ضالتهم في البورصة للحصول على عائد أفضل من الادخار في البنوك.
وبذلك تظل النقود في حالة من الانتقال غير المجدي اقتصاديا بين البنوك والبورصة، دون تحقيق أي إضافة اقتصادية حقيقية، فلم يؤد هذا الانتقال إلى إضافة فرص عمل، ولا وجود سلع وخدمات جديدة، ولا أضاف للناتج المحلي رصيد يقوي وضعه
في الاقتصاديات الرأسمالية يتم اللجوء لاستثمارات الأجانب في الدين العام، من أجل زيادة المعروض من النقد الأجنبي، الذي تأتي به هذه الاستثمارات، ويطلق على هذه الاستثمارات الأموال الساخنة.
والأموال الساخنة من أسوأ الأدوات النقدية التي تؤثر بشكل سلبي على أداء أي اقتصاد، تلك الأموال الساخنة، التي تأتي من أجل الحصول على أكبر عائد في أقل فترة زمنية ممكنة، ولا يعنيها استقرار اقتصادي أو تنمية، ويتوقع أن تعود الأموال الساخنة مرة ثانية إلى تركيا، للاستفادة من سعر الفائدة الأعلى في المنطقة، ولكنها ستخرج في أقرب فرصة حال ظهور سعر فائدة أعلى من تركيا، كما فعلت في 2019.
في الختام، نستطيع القول إن العالم يشقى في ظل اقتصاديات الربا، التي تقوم على آلية الديون والتجارة فيها، بينما الواقع بين نجاعة وصحة آلية المشاركة، التي تجعل من رأس المال عامل استقرار، لقبوله بمبدأ الربح والخسارة، وليس سعر الفائدة.
لقد كان أبرز دروس الأزمة المالية العالمية في عام 2008، هو خطأ الاستمرار بالعمل وفق آلية سعر الفائدة، إلا أن المرابين وتجار الديون لا يزالون يملكون سطوة السيطرة على مقدرات الأمور