الاقتصاد التركي متنوع ويتميز بوجود قاعدة إنتاجية قوية تمكنه من تحقيق معدلات نمو عالية.
في ظل التداعيات السلبية للعديد من الدول على مستوى العالم بسبب جائحة فيروس كورونا، تأتي الأخبار الإيجابية عن تركيا من حيث ارتفاع معدلات النمو، وكذلك زيادة الصادرات السلعية، والتطور المستمر في الصناعات الدفاعية، مما جعل تركيا محط الأنظار من حيث تطور تكنولوجيتها العسكرية.
ولكن على الجانب الآخر، فإن الليرة التركية تعاني من انخفاض لا يخفى على أحد، لدرجة جعلت العديد من المتعاملين مع تركيا يعيد حساباته بشكل مستمر، لعدم استقرار سعر الصرف، وكانت المحصلة النهائية لذلك هي ارتفاع معدلات التضخم، والتي لها تداعياتها السلبية -اقتصاديا واجتماعيا- في تركيا.
وفي هذه السطور، نحاول -عبر تناول بعض الأسئلة والأجوبة- أن نوضح طبيعة قضية التضخم، وأسبابها، وتداعياتها السلبية، وكذلك الحلول المقترحة التي يمكن من خلالها مواجهة المشكلة، وعلى أن نسبق هذا كله بالإشارة إلى وضع تركيا في المؤشرات الاقتصادية الكلية، وما تمتلكه من نقاط قوة وضعف.
من أهم ما يميز الاقتصاد التركي أنه اقتصاد متنوع، حيث يضم الناتج المحلي الإجمالي لتركيا مساهمة ملموسة لقطاعات الصناعة والزراعة والسياحة والتجارة وباقي مكونات قطاع الخدمات، فنجد أن الاقتصاد التركي قد بلغ عام 2020 نحو 5.05 تريليون ليرة، وبما يعادل 720 مليار دولار، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
ويتميز الاقتصاد التركي كذلك بوجود قاعدة إنتاجية قوية تمكنه من تحقيق معدلات نمو عالية مقارنة بالعديد من الدول الأخرى، ففي عام 2020 -الذي سيطرت فيه جائحة فيروس كورونا على اقتصاديات العالم- تراجعت معدلات النمو إلا في عدد محدود من الدول كان من بينها تركيا التي حققت معدل نمو إيجابي بلغ 1.8%.
وتحقق القاعدة الإنتاجية القوية والمرنة لتركيا ميزة كبيرة، من الناحية الاقتصادية، حيث يتم الاستفادة من انخفاض قيمة العملة المحلية بشكل لافت للنظر، وتحويل المشكلة إلى فرصة، حيث يلاحظ منذ تراجع قيمة العملة المحلية على مدار السنوات الماضية أن الصادرات السلعية تحقق تقدما ملحوظا، فقد تجاوزت الصادرات السلعية لتركيا حاجز الـ200 دولار سنويا، حيث بلغت في سبتمبر/أيلول 2021 نحو 211 مليار دولار على أساس سنوي.
وتشهد تركيا نهضة تكنولوجية في قطاع التسليح أدت إلى زيادة صادراتها خلال السنوات الخمس الماضية بنسبة 30%، وانخفضت وارداتها من التسليح بنسبة 59%، وذلك حسب تقدير "معهد ستوكهولم" (Stockholm International) للسلام، ويعتمد الاقتصاد التركي بشكل رئيس على القوى البشرية الذاتية، حيث يزيد عدد السكان على 84 مليون نسمة.
تعد قضية الطاقة واحدة من القضايا المؤرقة للاقتصاد التركي، حيث تعتمد البلاد على استيراد احتياجاتها من النفط بنسبة كبيرة تقدر في بعض الأحيان بنحو 90%، وهو ما جعلها تتجه لتشجيع توليد الطاقة من المصادر الأخرى للطاقة (الشمسية، والحرارية، والرياح، والنووية)، ومؤخرا تم الإعلان عن اكتشاف كميات من الغاز الطبيعي في بعض حقول البحر الأسود، وهي كميات تصل لتغطية احتياجات البلاد لنحو 8 سنوات، ومن هنا وجدنا تركيا حريصة على حقوقها في منطقة غاز شرق المتوسط، وكذلك حقوق قبرص التركية.
ومن نقاط الضعف أيضا التي يعاني منها الاقتصاد التركي، اعتماد القطاع الخاص على التمويل الخارجي بشكل كبير، ففي الوقت الذي نجد فيه قيمة الدين الخارجي للبلاد تصل إلى 440 مليار دولار، وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي عن عام 2019، فإن القطاع الخاص يستحوذ على نحو 65% من هذه الديون، ومما يزيد من هذه الإشكالية، أن القطاع الخاص لديه حصة ضاغطة في ملف الديون، من حيث اعتماده على الديون قصيرة الأجل، وهو ما يخلق ضغوطا مستمرة وسريعة في الطلب على الدولار.
ولوحظ مؤخرا، أن قرارات السياسة النقدية فيما يتعلق بسعر الفائدة، أحدثت ارتباكا في السوق، سواء فيما يتعلق برفع سعر الفائدة أو انخفاضها، وإن كانت الأمور على مدار الشهور الستة الأخيرة أكثر استقرارا، حيث حافظ البنك المركزي على سعر صرف عند 19%، ولم يخفض هذا السعر إلا خلال سبتمبر/أيلول الماضي بنحو 1%، ليصبح سعر الفائدة 18%.
حسب بيانات البنك المركزي التركي، بلغ معدل التضخم في سبتمبر/أيلول 2021، نسبة 19.85%، وهو معدل مرتفع بلا شك، وتستهدف الحكومة خفضه إلى قرابة 16% بنهاية 2021، ولكن تحليل الواقع الاقتصادي يكشف لنا أن التضخم في تركيا يأتي من جانبي العرض والطلب معا، بمعنى أن سعر الفائدة مرتفع، حتى بعد خفضه إلى 18% في سبتمبر/أيلول الماضي، فارتفاع سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج والخدمات، وبخاصة إذا ما كان الاقتصادي يعتمد على الائتمان المصرفي بشكل كبير.
ومن جانب آخر، فإن انخفاض قيمة العملة المحلية يؤدي إلى انخفاض القيمة الشرائية لها، وبالتالي يزيد التضخم من جانب الطلب، ومما يخشى منه خلال الفترة القادمة في ظل اتجاه أسعار النفط للارتفاع أن يزيد ذلك من استمرار معدل التضخم مرتفعا لفترة طويلة، ما لم تسع الحكومة للقضاء على الأسباب الأخرى للتضخم، ولعل سياسة تخفيض أسعار الفائدة تكون أحد الأدوات، ولكنها في حالة تركيا تحتاج إلى تدرج، والأخذ بالحسبان فترة زمنية لا تحدث حالة من القلق لدى المدخرين، وحائزي العملات الأجنبية.
تعاني الليرة التركية منذ عام 2014 من انخفاض مستمر في قيمتها، ويرجع ذلك إلى مجموعة من الاعتبارات السياسية والاقتصادية، وكان في مقدمتها الأوضاع الإقليمية التي دفعت الحكومة التركية لوجود قوات عسكرية في كل من العراق وسوريا لقضايا تتعلق بالأمن القومي التركي، والحفاظ على مقدرات سيادة الدولة.
إضافة إلى ذلك، اصطدام تركيا بالسياسات الأميركية في بعض الملفات الخاصة بالمنطقة، مما أدى إلى صدام قوي في عهد الرئيس الأميركي السابق ترامب، وتهديده بتدمير الاقتصاد التركي، كذلك اختلاف وجهات النظر لتركيا مع بعض دول المنطقة حول ملفات الربيع العربي، وغيره من القضايا، مما جعل هذه الدول تتخذ بعض القرارات التي تؤثر على أداء الاقتصاد التركي، بما فيها وجود شبهات قوية حول قيام بعض الدول العربية بالمضاربة على قيمة العملة التركية في الأسواق الدولية والمحلية، كنوع من الصراع بينهم، لإضعاف موقف حكومة حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان.
أيضا كانت الأوضاع السياسية في تركيا منذ عام 2014، تعاني من اضطرابات، مثل محاولة الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، وإجراء الانتخابات المبكرة، على مستويات البلديات والبرلمان والرئاسة، ويسبق ذلك الاستفتاء حول التعديلات الدستورية، والتي كان أبرزها تغير طبيعة نظام الحكم
وبلا شك، إن العوامل الاقتصادية كان لها دور مهم، مثل جائحة فيروس كورونا، وتأثيراته على قطاع السياحة بكل مكوناته النشطة في تركيا، وكذلك تأثر الاستثمار في قطاع العقارات، كل هذه العوامل السياسية والاقتصادية أوجدت حالة من عدم الاستقرار والانخفاض المستمر في قيمة الليرة، مما ساعد على ارتفاع معدلات التضخم بالبلاد.
من الصعب أن يواجه صانع السياسة النقدية معالجة مشكلة التضخم من طرفيها، العرض والطلب، ولكن التدرج مطلوب، ومن أهم أدوات العلاج إيجاد حالة من الثقة مع أفراد المجتمع، كون الحكومة تسعى لتحقيق مصالحهم، لمواجهة إشكاليات "الدولرة"، أو الاكتناز.
كما أن المطلوب تخفيض قيمة اقتراض القطاع الخاص من الخارج، والتركيز على التمويل بالمشاركة، وإعطاء مساحات أكبر للتمويل الإسلامي، وتشجيع الأفراد على التعامل بعيدا عن النقد الأجنبي وقصر التعاملات على العملة المحلية.
في الختام، لا يمكن إهمال مواجهة ظاهرة المضاربة على سعر الصرف، التي تتكاتف فيها أيد خارجية وأخرى محلية لإضعاف الليرة، فمن غير المقبول أن يكون لدى تركيا اقتصاد بهذه القوة، وتلك المعدلات المرتفعة من معدل التضخم