منذ شهرين متتاليين تستمر المظاهرات الشعبية في العراق التي انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري 2019م. وتؤكد منظمة الشفافية الدولية في تقرير صدر أواخر الشهر الماضي أن الأوضاع الاقتصادية المتردية هي التي دفعت بالمتظاهرين للخروج إلى الشارع والمطالبة بتغيير النظام، كما أن البطالة – خاصة بين الشباب – ومظاهر الفساد الذي تجذر في ظل مؤسسة الحكم التي تقوم على التقسيم الطائفي بين المكونات العراقية، هما الدافعان لحالة التذمر التي أطلقت شرارة التظاهرات في العراق.
وحسب بيانات الجهاز المركزي للاحصاء العراقي، فإن معدلات الفقر قد وصلت إلى 20% خلال العام 2018م، أما البطالة فقد بلغ معدلها نحو 13.8% في نفس العام، في حين بلغت البطالة بين الشباب 19%. ولئن كان من المهم الشروع في اصلاحات سياسية عاجلة في العراق إلا أنه من الضروري أيضاً أن يوازيها اصلاح اقتصادي، يلبي مطالب المتظاهرين ويعود بالاستقرار إلى الشارع، وتتمثل الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة للعراق حاليًا فيما يلي.
تؤكد بيانات صندوق النقد الدولي (يوليو/تموز 2019م) أن إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للعراق بلغ 224 مليار دولار بنهاية 2018، ويتوقع الصندوق أن يصل معدل نمو الناتج المحلي 5.5% في 2019م. ويشهد الوضع في العراق ارتفع المدخرات المحلية كنسبة من الناتج المحلي حيث تقترب من 20%، قبالة ذلك يبلغ إجمالي الاستثمارات المحلية كنسبة من الناتج بحدود 13%.
وإن كان هذا الوضع على المستوى المالي والحسابي يمثل حالة إيجابية، إلا أنه على مستوى التنمية يفرض تحديًا كبيرًا لضرورة استيعاب هذه الفوائض من المدخرات وتوظيفها في مشروعات إنتاجية وخدمية تساعد في مكافحة الفقر والتخفيف من حدة البطالة. المفترض حسب قواعد التنمية المتعرف عليها أن تحقيق معدل نمو 5.5% يتطلب استثمارات تمثل نسبة لا تقل عن 27% من الناتج المحلي الإجمالي.
العراق قبل احتلاله كان يمثل دولة مركزية في المنطقة، وحتى يستعيد البلد مكانته ويتحرر من التبعية الإقليمية والدولية يجب أن تتوفر له قاعدة إنتاجية تعتمد على الصناعة والزراعة، وتطوير التعليم، ليتخلص من تصدير النفط والغاز في شكل مواد خام، ويتحول إلى دولة تصدر المشتقات من النفط والغاز لتتعاظم القيمة المضافة لهما.
ليس هذا فحسب، لابد أيضاً من وجود قاعدة صناعية تلبي الاحتياجات الأساسية لأفراد المجتمع في المرحلة الأولى، ثم تنتقل إلى إنتاج السلع الكهربائية والالكترونية في المرحلة الثانية، ثم السلع عالية التكنولوجيا في المرحلة الثالثة.
والعراق بما له من موارد زراعية وافرة، لابد أن يصل لمعدلات عالية من الاكتفاء الذاتي من السلع الزراعية في إطار خطة خمسية أو عشرية على الأكثر، ثم يتحول للتصنيع الزراعي والاتجاه للصادرات الزراعية.
منذ عام 2003 والعراق يحتل مرتبة متأخرة في مؤشر الفساد، وكما ترى منظمة الشفافية الدولية، فإن نظام الحكم القائم على المذهبية أدى إلى وجود مناخ خصب للفساد، حيث يتم توزيع الوظائف العامة حسب المذهب، وكذلك توزيع العقود العامة الخاصة باحتياجات الحكومة ومناقصاتها وتوظيف الانفاق العام.
وفي مؤشر الشفافية الدولية عام 2018، حصلت العراق على 18 درجة فقط من إجمالي درجات المؤشر البالغة 100 درجة، وجاء ترتيبها عند 169 من بين 180 دولة، ومن هنا لابد أن تتخذ خطوات جادة لمكافحة الفساد، وألا تكون هذه الجهود قاصرة على الجانب الإجرائي مثل وجود لجنة النزاهة والشفافية التابعة بالبرلمان، والتي يعمل بها أكثر من ألفي موظف، ومع ذلك لا يزال الفساد مستشريًا هناك، فأصل الداء هو التركيبة السياسية وانعكاستها على فساد الإنفاق الحكومي وسوء أداء المؤسسات العامة، كما ذكرت منظمة الشفافية الدولية، فلابد أن تكون فرصة الحصول على الوظائف العامة قائمة على الكفاءة والخبرة وليس الانتماء المذهبي، وكذلك عقود الأعمال العامة لابد من أن تتحرر من هذا القيد.
على الرغم من أن العراق يعد بلدًا نفطيًا بالدرجة الأولى إلا أن موارده الطبيعية والبشرية والمالية تسمح له بالتنوع الاقتصادي، فلديه أراضي زراعية وموارد مالية تسمح بتحقيق نسب عالية من الاكتفاء الذاتي.
وتذهب بيانات صندوق النقد الدولي لتقدير الإيرادات الحكومية في عام 2019 بنحو 40.5 مليار دولار، وتمثل الإيرادات النفطية نحو 92%، وهو ما يجعل الاقتصاد العراقي رهن أداء السوق الدولية للنفط. يحتاج اقتصاد العراق الى عملية إعادة إعمار واسعة، وتحقيق نهضة اقتصادية. تأثر العراق بشكل كبير بانهيار أسعار النفط في السوق الدولية، منذ منتصف عام 2014، وانعكس ذلك على أدائه المالي في ارتفاع الدين العام وعجز الموازنة. ولذلك لابد للعراق من خطة تنمية تستهدف التنوع الاقتصادي ليكون النفط بعد نحو 10 سنوات أحد الموارد المهمة للإيرادات العامة وليس المصدر الرئيس.
مكافحة الفساد من أهم أسباب التخفيف من حدة الفقر، حيث ستكون هناك فرصة للفقراء للحصول على مستوى أفضل من الثروة، فعدالة توزيع الثروة في العراق الآن يحكمها الفساد المستند على المذهبية السياسية، فالخدمات العامة يتم تنفيذها بتكلفة أعلى بكثير من التكاليف الحقيقية، كما أن توزيع الخدمات والمرافق يعتمد على ثقل المذهب ونفوذه في النظام السياسي وليس على أساس الاحتياج المناطقي أو حقوق الإنسان.
فالعراق الذي لديه هذه الثروة الكبيرة من النفط، لديه أيضًا نسبة مرتفعة من الفقر بلغت حسب الاحصاءات الحكومية 20%. هذا فيما يتعلق بفقر الدخل أما الفقر متعدد الأبعاد فقد صدر في 2017 تقريرًا عن الفقر متعدد الابعاد عن منظمة الأسكوا وأخرون، شمل 10 دول عربية من بينها العراق، وخلص التقرير إلى أن 41% من الأسر بهذه الدول يقعون تحت تصنيف الأسر الفقيرة، وأن 13% من أسرة هذه الدول يعيشون تحت تصنيف الفقر المدقع، وأن الشريحة العمرية أقل من 18 عامًا يعانون من نسبة فقر تبلغ 44%، وأن 25% من هذه الشريحة العمرية يعانون من الفقر المدقع.
ويعد مطلب عدالة توزيع الثروة من أهم أدوات مكافحة الفقر، والتفكير خارج نطاق المشروعات الحكومية المستنسخة، مثل المشروعات متناهية الصغير، فلابد من وجود خطة تنمية تعود على الشرائح الدنيا والمتوسطة بعائد أعلى من ثمار التنمية، ليتغير الواقع البائس.
بلا شك الأزمات التي مر بها العراق خلال العقود الماضية، تركت أثرًا كبيرًا في مناحي التفكير لدى الأجيال الجديدة، وبخاصة تجاه العمل، والبعد عن بعض العادات والتقاليد السلبية تجاه العمل. وأول ما يتطلبه العمل على تخفيف حدة البطالة في البلاد، هو ترسيخ مفهوم قيمة العمل في نفسية وعقلية العراقيين؛ وخاصة الشباب.
ثانيًا، تطوير برامج التعليم والتدريب، لتكون مخرجات مؤسسات التعليم تتناسب مع سوق العمل، ومن الضروري في الأجل القصير تأهيل الأيدي العاملة التي تعاني من البطالة لسد احتياجات سوق العمل بالعراق، وعدم الاعتماد على استقدام العمالة الوافدة، قبل أن تنخفض معدلات البطالة إلى حدود ما يعرف بالتوظيف الكامل عند معدل بطالة لا يزيد عن 3%.
المتطلبات السابقة ليست أعمال تعجيزية، ولكنه تحتاج بالدرجة الأولى إلى إرادة سياسية، ووضع هذه المطالب في شكل خطط تنموية، يكون بها مستهدفات على المستوى الجغرافي والكمي، يتم العمل على تحقيقها بجدية ودون تأخير.