الرئيسية / العالم العربي / الخيارات الاقتصادية الصعبة لدول الربيع العربي

الخيارات الاقتصادية الصعبة لدول الربيع العربي

  • بقلم: أ. عبد الحافظ الصاوي
  • 11-01-2014
  • 109
الخيارات الاقتصادية الصعبة لدول الربيع العربي
  • المصدر: الجزيرة

بعد ثلاث سنوات
الاعتماد على الذات
قبول الوصفة الغربية
نجاح الثورة المضادة
المحيط الإقليمي والدولي

بعد ثلاث سنوات

ارتفع سقف التطلعات لدى شعوب دول الربيع العربي فور إزاحة رؤوس النظم الدكتاتورية في عام 2011، وثمة حديث جاد عن ضرورة تبني مشروع للتنمية يقضي على ملامح سلبية رئيسية في هذه المجتمعات وهي: البطالة والفقر والأمية والمرض.

"
المؤشرات الاقتصادية التي تشير إلى عمق الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها دول الربيع العربي كثيرة, منها على سبيل المثال ما تشهده هذه الدول من تزايد ملحوظ في مستوى الفقر وانخفاض مستوى الخدمات العامة، نتيجة تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وبالتبعية ارتفاع معدلات البطالة
"

هذا فضلًا عن حتمية الخروج من دائرة التخلف الاقتصادي وتحديث التعليم، والاستفادة من الموارد الطبيعية وتحويلها إلى مواد مصنعة قبل تصديرها، وغير ذلك كثير.

ومع مطلع عام 2014، أي بعد نحو ثلاث سنوات من بداية أحداث الثورات العربية، فإن الأوضاع الاقتصادية بدول الربيع العربي تزداد سوءًا، وأحلام التنمية والقضاء على التخلف الاقتصادي وسماته الرئيسية ذهبت أدراج الرياح.

فقد تمكنت الثورة المضادة في دول الربيع العربي من تنظيم صفوفها، والعودة إلى صدارة المشهد، إما بالانقلاب العسكري كما حدث في مصر، وإما بإعاقة المسارات الديمقراطية والبقاء في دوامة النزاعات السياسية كما هو الحال في ليبيا وتونس واليمن، وإما باستمرار المسلسل الدموي في سوريا.

والمؤشرات الاقتصادية التي تشير إلى عمق الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها دول الربيع العربي كثيرة. ومنها على سبيل المثال، ووفق إحصاءات رسمية، البطالة التي بلغت في سوريا 48%، وفي اليمن 17.3%، وفي تونس 16%، وفي ليبيا 15%، وفي مصر 13.5%.

كما تشهد هذه الدول تزايدًا ملحوظًا في مستوى الفقر وانخفاض مستوى الخدمات العامة نتيجة تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وبالتبعية ارتفاع معدلات البطالة.

أما المشكلة الأبرز فهي مشكلة التمويل، حيث حصلت مصر على مساعدات خليجية قدرت بنحو 12 مليار دولار خلال الشهور الماضية، وتسعى للحصول على حزمة مساعدات خليجية أخرى لتسيير الأعمال خلال عام 2014.

أما تونس فلم تجد مناصا من إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي وكذلك الحصول على بعض القروض الخارجية.

وفي ليبيا الدولة النفطية، تتعطل الموارد النفطية بسبب المشكلات السياسية. أما اليمن فمنذ اللحظات الأولى توجه للمؤسسات الدولية ووُعد بمؤتمر للمانحين لم يسفر بعد عن نتائج ملموسة. وسوريا يشغلها النزاع المسلح عن أية قضية سياسية، وسوف تسفر الأيام عن كيفية تدبير نفقات الحرب بالنسبة لنظام الأسد.

إذًا الخريطة الاقتصادية لدول الربيع العربي تعكس تراجع الأداء الاقتصادي، بعد انتكاسات الأوضاع السياسية وعدم النجاح في المضي قدمًا في احترام آليات النظام الديمقراطي. ومن هنا فإن ثمة مجموعة من السيناريوهات تنتظر مستقبل الأوضاع الاقتصادية بدول الربيع العربي، وسوف يتحدد المستقبل الاقتصادي لهذه الدول بناء على نجاح أحد السيناريوهات الآتية:

الاعتماد على الذات

يعتمد هذا السيناريو على الحراك السياسي للمجموعات الثورية في الشارع، ومحاولتها لاسترجاع الثورة، ومواجهة الثورة المضادة، والعودة مرة أخرى لنقطة بدايات عام 2011 وما تبعها من المضي قدمًا نحو مشروع تنموي حقيقي يقضي على المشكلات الاقتصادية.

"
الخريطة الاقتصادية لدول الربيع العربي تعكس تراجع الأداء الاقتصادي، بعد انتكاسات الأوضاع السياسية وعدم النجاح في المضي قدمًا في احترام آليات النظام الديمقراطي
"

وهذا يعني أن عنصر الزمن قد يطول أو يقصر لتحقيق النجاح على الثورات المضادة واسترجاع الربيع العربي، وهو ما ينبني عليه استمرار تباطؤ معدلات النمو نتيجة لعدم الاستقرار السياسي من جهة، ونقص التمويل واستمرار اتباع النظم الدكتاتورية في استنزاف الأموال وتهريبها للخارج وتأزيم الأوضاع الاقتصادية من جهة أخرى.

كما أن رجل الشارع قد يستبطئ نتائج نجاح هذا السيناريو ويضج من تدهور الأوضاع الاقتصادية، ولكن ما سيترتب على نجاحه ستكون له آثار إيجابية في الأجل الطويل، من تبنٍ حقيقي لمشروع تنموي يعبر عن ثورات الربيع العربي.

وفي حالة نجاح الحراك الثوري في استرداد الربيع العربي، فعليه ألا يقع في أخطاء الماضي، ومنها تخيل أن المنهج الإصلاحي والقانوني قد يصلح لمعالجة الأوضاع الاقتصادية، وعليهم تبني منهج ثوري، يعمل على مصادرة الأموال المنهوبة والمشبوهة، والتخلص من رأس المالية المتوحشة والطفيلية، وبناء مؤسسات حقيقية تعمل على تحقيق التنمية، ودور قوي للدولة لمعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.

وعليهم ألا يعبؤوا بما يوجه إليهم من اتهامات بتبني سياسات شعبوية، أو الحياد عن اقتصادات السوق أو الخروج عن دائرة الاقتصاد العالمي، فكل هذه الحجج لا تصلح لاقتصادات ما بعد الثورة، ولا تقيم استقلالا اقتصاديا.

ولا يعني ذلك محاربة دولة القانون أو المؤسسات، ولكن الواقع يفرض على النهج الثوري الخروج من نفق المؤسسات الفاسدة التي بنتها النظم الدكتاتورية الزائلة، والتي استطاعت من خلالها الثورة المضادة بأن تطل بوجهها القبيح مرة أخرى.

أيضًا لا بد من مصارحة الشعوب العربية بحالة وطبيعة المشكلات الاقتصادية، ليس من قبيل التشاؤم أو صعوبة المهمة، ولكن من أجل مشاركة الشعوب في تحمل تبعات الإصلاح. وعلى الحركات الثورية في حالة نجاحها في استرداد الربيع العربي ألا تكرر خطأ الإفراط في الوعود الاقتصادية، والطموحات الكبيرة، ولكن عليهم أن يضعوا الإمكانيات المتاحة في طرفها الصحيح بمعادلة التنمية.

قبول الوصفة الغربية

هذا السيناريو يختلف عن سابقه. ففي السيناريو الأول يتم الاعتماد على الذات بشكل كبير من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلال الاقتصادي. أما سيناريو قبول الوصفة الغربية فيعتمد كذلك على نجاح الحراك الثوري أيضًا في استرجاع الربيع العربي، ولكن يتجه لتبني وصفات رأس المالية الغربية، أو وصفات المؤسسات الاقتصادية الدولية.

"
من أسوأ ما ترتكبه المنظمات الدولية تجاه الحالات المشابهة لوضع دول الربيع العربي، أنها تساوي بينها وبين بقية الدول ذات الاقتصاد المتعافي
"

وعليه فستكون الأوضاع الاقتصادية هشة، وتتعاظم المشكلات الاقتصادية، لاعتماد نفس منهج المنظمات الدولية الرقمي، الذي ينظر إلى عجز الموازنة، وعجز ميزان المدفوعات، ويهمل تمامًا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها اقتصادات الربيع العربي.

كما لا تأخذ الوصفة الغربية في الاعتبار حاجة اقتصادات هذه الدول لفترات انتقالية، والتخلي عن منظومة تعظيم الدين العام، وتقديم ثروات هذه البلاد على طبق من ذهب لرأس المالية العالمية.

ومن أسوأ ما ترتكبه المنظمات الدولية تجاه الحالات المشابهة لوضع دول الربيع العربي أنها تساوي بينها وبين بقية الدول ذات الاقتصاد المتعافي، ولا تراعي خصوصية كل دولة، ولكنها تقدم أجندات ثابتة، مع العلم بأن معالجة اقتصاد كل دولة تختلف عن الأخرى.

ولعل تجربة ماليزيا وباقي دول مجموعة "البريكس" يمكن الاستفادة منها في حالة اختيار دول الربيع العربي لهذا السيناريو، وهي ألا تخضع لأجندة المنظمات الدولية، وأن تبحث عن مشاركات استثمارية وفق خططها التنموية الوطنية التي تعالج مشكلات التخلف الاقتصادي. فإذا لجأت للاستثمار الأجنبي، فيكون وفق سياسات كثيفة العمل في المراحل الأولى لتخفيف حدة البطالة، وألا تكون مشروعات ملوثة للبيئة، وأن تضيف تكنولوجيا جديدة، وأن تساعد على التصدير.

ومن دون ذلك فسيكون سيناريو قبول الوصفة الغربية كارثة جديدة، تفقد ثقة الشعوب في ثورات الربيع العربي، لما ستؤول إليه الأوضاع من تكريس رأس المالية المتوحشة، وشيوع الفقر والبطالة، واستمرار التبعية الاقتصادية للدول الغربية وأميركا.

نجاح الثورة المضادة

السيناريو الثالث كارثي، وهو أن تنجح الثورة المضادة في توطيد حكمها، وبذلك تعود النظم الدكتاتورية بكامل هياكلها ومؤسساتها، ولكن هذه المرة ستكون أشرس، سياسيًا واقتصاديًا، حيث ستتعمق دولة الفساد، وسيستمر مسلسل نهب ثروات الشعوب العربية، وهو ما لاحظناه في العديد من دول الربيع، إذ عادت رموز رأس المالية الفاسدة وكأنها لم تقترف جُرما في حق شعوب هذه البلاد، بل تطالب بعودتها للبرلمانات وللسلطة.

وستعيش دول الربيع العربي، في حالة نجاح هذا السيناريو، ما يعرف بتزاوج رأس المال والسلطة بشكل أقبح مما كان عليه الوضع قبل عام 2011. ومن هنا سيترتب على نجاح هذا السيناريو أيضًا ارتفاع معدلات البطالة والفقر والأمية، فضلًا عما تجنيه الدول من ارتفاع معدلات الجريمة والهجرة للخارج بنوعيها الشرعية وغير الشرعية.

غير أن هذا السيناريو قد يستغرق بعض الوقت ولكنه لن يكون طويلا، لمحاولات الثورة المضادة إضفاء ثوب المؤسسية والشرعية على عودتها، من خلال انتخابات أو وضع دساتير وخلافه. وهو ما يعني أن الأوضاع الاقتصادية في الأجل القصير ستكون على ما هي عليه من حالة استمرار التشاؤم والتقييمات السلبية لمناخ الاستثمار بهذه الدول.

أما الأجلان المتوسط والطويل، فسيكون الوضع هو فقدان الأمل في تبني مشروع تنموي بدول الربيع العربي، واستمرار منهج الاقتصاد الريعي، والاعتماد على المساعدات الإقليمية والدولية.

المحيط الإقليمي والدولي

لم تعد نتائج السيناريوهات الثلاثة السابقة خيارات قُطرية خالصة، ولكن هناك من يدفع لنجاح أحدها، وفق أجندة كل طرف، إما لأسباب اقتصادية، وإما لأسباب سياسية، وإما للاثنين معًا.

"
على القوى الإقليمية والدولية أن تعي أن من حق دول الربيع العربي أن تتخذ إجراءات استثنائية لاسترداد ثرواتها، وأن اقتصاد السوق ليس كتابًا مقدسًا لابد من تطبيقه حرفيًا، فهناك أوضاع تقتضي دورا قويا للدولة
"

وبالتالي فعلى القوى الإقليمية والدولية أن تعي أن من حق دول الربيع العربي أن تتخذ إجراءات استثنائية لاسترداد ثرواتها، وأن اقتصاد السوق ليس كتابًا مقدسًا لابد من تطبيقه حرفيًا، فهناك أوضاع تقتضي دورا قويا للدولة، على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط.

ولكن السيناريو الثاني والثالث سيعود بآثار سلبية على الصعيد الإقليمي والدولي، فحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بدول الربيع العربي تعني استمرار معدلات الهجرة للخارج، وإعاقة مشروعات استثمارية إقليمية في هذه الدول، وارتفاع تكلفة أية مشروعات مزمع إقامتها لارتفاع تكلفة الفساد.

وبالتالي يكون السيناريو الأول أفضل قطريًا لدول الربيع العربي، أو في حالة اختيار السيناريو الثاني، فعلى دول الربيع العربي أن تعكس تجربة ذاتية في تعاملها مع المؤسسات الاقتصادية الدولية، بحيث تعمل على تعظيم مصالحها، ولا تقع تحت ضغط هذه المؤسسات، ورفض قبول أجندات ثابتة لا تراعي طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها كل دولة على حدة.

وفي الختام فإن السيناريوهات الثلاثة صعبة، ولكن أقلها ضررًا هو السيناريو الأول، وتتمثل صعوبته فيما ستدفعه الشعوب من ثمن وتضحيات لنجاح مشروع تنموي حقيقي، أما صعوبة السيناريوهات الأخرى فهي تكريس التخلف، واستمرار التبعية، واستنزاف ثروات البلاد