تقود السيناريوهات المفتوحة والإنفاق بلا حساب اقتصاديات الدول إلى الانهيار، مهما كانت مواردها، فالدرس الذي تعلمته الولايات المتحدة من حربها في احتلال أفغانستان والعراق، أن التكاليف كانت خارج نطاق حساباتها، وأن المواطن الأمريكي دفع فاتورة عالية جراء دخول بلاده في هذه الحروب، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة زادت من سيطرتها على الموارد النفطية بالمنطقة، واستطاعت أن تظهر قوتها العسكرية ضد شعوب تفتقد لأبسط مقومات التسليح.
يتكرر ذات السيناريو اليوم في اليمن، إذ تعجلت دول الخليج التدخل العسكري في البلاد منتصف مارس 2015، وبنت حساباتها على حسم الصراع عبر ضربات جوية، ثم تبين لها خطأ حساباتها. أصبحت حرب اليمن مستنقعاً لاستنزاف المقدرات المادية والبشرية لجميع الأطراف المشاركة بها، وحتى تلك التي تشارك من وراء ستار، كإيران.
تمضي الأيام، ولا تلوح في الأفق بوادر لحسم عسكري من قبل أحد الأطراف المتنازعة، سواء الأطراف الداخلية، أو الخارجية، ولكن الشعب اليمني تزداد معاناته بشكل كبير، على الصعيد الإنساني، حيث تنتشر الأمراض المعدية نتيجة النقص الشديد في الغذاء والدواء والمياه الصالحة للشرب.
وفي ظل انعدام الشفافية التي تتسم بها اقتصاديات الدول المشاركة في هذه الحرب يصعب الوصول لتكلفة حقيقية على وجه الدقة، ولكن ثمة تقديرات تمت من قبل مجلة فوربس الأمريكية في الشهور الستة الأولى للحرب في اليمن، وقدرت المجلة تكلفة الحرب بنحو 725 مليار دولار، أي أن التكلفة الشهرية تصل إلى 120 مليار دولار.
ونظراً لاختلاف طبيعة الحرب والأدوات المستخدمة فيها، حيث تم تخفيف حدة الهجوم بالطائرات من قبل التحالف الخليجي على اليمن، لتكون الطلعات الجوية محدودة، فإن التكلفة بلا شك ستختلف عن فترة الشهور الستة الأولى، ولو افترضنا أن التكلفة بدون استخدام هجمات الطائرات، ستنخفض للنصف، فإننا بصدد تكلفة تقدر بنحو 60 مليار دولار شهرياً، ونحو 720 مليار دولار سنوياً.
وحسب هذا التقدير فإن تكلفة فترة ما بعد الشهور الستة الأولى للحرب تقدر قرابة 1.5 تريليون دولار، حيث استمرت الحرب الآن لعامين ونصف العام منذ مارس 2015 وحتى الآن، ولا يُعرف بعد أمد زمني، تتوقف فيه هذه الحرب، ويتم اللجوء للحلول السياسية.
ليست الحرب في اليمن إلا حلقة من مسلسل استنزاف الموارد المالية والطبيعية والبشرية في المنطقة، سواء لدول الخليج أو لإيران، ويعد اليمن أكثر الخاسرين من هذه الحرب التي تدور على أرضه، وشردت أبناءه، وقتلت منهم الآلاف، فضلاً عن تدمير بنيته الأساسية، وانهيار الدولة، وقابليتها للتقسيم بشكل كبير.
على مستوى اليمن انهارت عملتها المحلية، ووسط الانقسام الحادث لإدارة الدولة، فهناك إدارة حكومية في صنعاء والمناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، وإدارة في عدن والمناطق الواقعة تحت سيطرتها هناك، ولكل منهما تكاليفه المالية، ولكنها تكاليف غير ذاتية، حيث انعدمت الموارد الذاتية للدولة اليمينة. وتدار الدولة في اليمن من خلال طرفي النزاع، على أن تتكلف الجهة الداعمة لأعباء المالية للإدارة الحكومية لكل طرف.
وإذا كانت الأرقام والتقديرات تنصرف إلى طرف واحد وهو تحالف الخليج، فإن الطرف الثاني هو إيران، يتعمد الإبقاء على حالة من الضبابية أو عتمة شديدة في الإفصاح عن الأوضاع المالية الخاصة بإيران بشكل عام، وعن تمويلها لتوسعها في دول المنطقة بشكل خاص، وبالتالي سيكون من الصعوبة بمكان أن تعلن إيران عن حجم التكاليف التي تكبدتها نظير دعمها للحوثيين في اليمن.
وإذا قلنا أن الحوثيين لم يستخدموا الطيران في حربهم ضد التحالف الخليجي، فإنهم لجؤوا إلى استخدام ما يمكن أن نسميه ترسانة صواريخ معلومة المصدر، أو على الأقل معلومة التمويل. وإذا قلنا بأن الحوثيين تصل تكلفتهم في هذه الحرب بما يعادل ثلث ما تكلفه تحالف الخليج بدون استخدام الطائرات، أي 20 مليار دولار شهرياً، فإننا بصدد تكلفة بنحو 600 مليار دولار على مدار ثلاثين شهراً، وهو مبلغ تحملته الخزانة الإيرانية بلا أدنى شك.
ويزيد من أعباء تكاليف الحرب اليمن على جميع الأطراف، أنها أتت بعد أزمة انهيار أسعار النفط، وهو ما أدى بالفعل إلى حالة من الاختناق المالي، ظهرت في الإجراءات التقشفية التي اتخذت بالخليج مؤخراً، والمعلوم أن طرفي الصراع يعتمدان بنسبة كبيرة على الإيرادات النفطية.
إذا تحدثنا على تكاليف السلاح المستخدم في الحرب باليمن، والخسائر البشرية والمادية الأخرى لكافة أطراف الصراع، فإن هناك تكاليف غير مباشرة، لابد أن تأخذ في الحسبان، منها أثر تلك الحرب على مناخ الاستثمار في كل من السعودية وإيران باعتبار الحرب أحد العوامل غير محسوبة العواقب، والتي أصبح البعد الزمني لنهايتها مبهماً، مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الملاءة المالية لكلا الطرفين، وهو ما يظهر في وضع السعودية بشكل كبير حيث تتاح بعض البيانات الخاصة بتراجع احتياطيات النقد الأجنبي ليكون دون حاجز الـ 500 مليار دولار نهاية أغسطس 2017، أو إقدام السعودية على الاستدانة الخارجية، والتي كان آخر أخبارها بعزم السعودية بإصدار سندات دولية بنحو 12.5 مليار دولار في السوق الدولية خلال الأيام القادمة. في سبتمبر 2016 تهرب وزير المالية السعودية من الإجابة في أحد المؤتمرات الصحفية عن تكلفة الحرب في اليمن، وأجاب بأنه لا حدود للإنفاق على أمن المملكة وحدودها وأراضيها. ومن جهة أخرى ثمة حالة من ارتفاع تكلفة شراء السلاح من قبل جميع أطراف الصراع في اليمن، وإن كانت إيران لديها بعض المزايا الخاصة بإنتاجها للسلاح، وبخاصة الصواريخ، والتي تستخدم بكثرة من قبل الحوثيين ضد السعودية، وأصبحت مصدر لإثارة الرعب في المناطق الحدودية مع الجوار اليمني.
ولا شك أن الفرصة البديلة للانفاق على الحرب في اليمن، خلال فترة تزيد عن عامين ونصف، كانت جديرة بإحداث طفرة تنموية في المنطقة، فنحو 1.5 تريليون دولار تحملتها موازنات التحالف الخليجي ونحو 600 مليار تحملتها موازنة إيران، من شأنها أن تخلق الآلاف من فرص العمل لمنطقة يعاني سكانها بشكل عام وشبابها بشكل خاص من البطالة.
رهان طرفي النزاع في الحرب اليمينة الخليجية على الإيرادات النفطية، هو رهان خاسر بكل المعايير، فوجود مورد مالي لا يعني إهداره في حرب لا طائل منها، فضلاً عن وضعها للمنطقة على خريطة المناطق غير المستقرة، والتي لا تقدم عليها الاستثمارات الأجنبية، أو حتى الاستثمارات المحلية، التي تبحث عن الاستقرار والأمن، وهو ما لا يتوفر في ظل حرب مفتوحة.
ولا يخفى على أحد حالة الخروج لرؤوس الأموال من منطقة الخليج خلال الفترة الماضية، حتى ولو على مستوى الاستخدام الشخصي وتكاليف الإقامة بالخارج، فتركيا على سبيل المثال تشهد إقبالاً من قبل الخليجيين لشراء العقارات وإنشاء شركات ومؤسسات اقتصادية، وإن كانت في إطار الشركات الصغيرة والمتوسطة.
في الخلاصة؛ يضعف استمرار الحرب في اليمن جميع المشاركين فيها على الصعيد الاقتصادي، كما أنه يقوض الدور الإقليمي لهذه الدول من خلال استنزاف ثرواتها لصالح أطراف أخرى في المنطقة