تتزاحم الأزمات على الخريطة الاقتصادية لمنطقة الخليج، فما بين تدني أسعار النفط ومشكلاته المتعددة على اقتصاديات الخليج، وضبابية سيناريوهات أزمة كورونا التي تُعطل العديد من الأنشطة الاقتصادية في هذه الدول، تأتي أزمة شركة NMC Health (إن إم سي هيلث) – تتخذ من إمارة أبو ظبي مقرًا رئيسيًا لها – لتضع كثيرًا من علامات الاستفهام حول آليات العمل في بنوك منطقة الخليج بشكل عام، والإمارات خاصة.
ارتفعت مديونيات الشركة لنحو 6.6 مليار دولار مستحقة لحوالي 75 بنكًا من منطقة الخليج وخارجها. الشركة أسسها عام 1985 الدكتور بي آر شيتي، وهو رجل أعمال هندي، لتعمل في مجال الخدمات الصحية، وتواجه الشركة أزمة قد تُفضي بها في النهاية إلى إعلان إفلاسها، كما أنها صدرت أزمتها للعديد من البنوك، وبخاصة بنوك الإمارات، وتجري البنوك -من خارج الإمارات- مفاوضات مع القائمين على أمر الشركة، للحصول على أموالها.
وتبلغ حصة الديون المستحقة للبنوك الخليجية على هذه الشركة نحو 3 مليارات دولار، وتستحوذ بنوك الإمارات على نحو 2.2 مليار دولار من هذه الديون، وهو ما يمثل أزمة خانقة في ظل التداعيات السلبية لأزمة تفشي وباء كورونا وتداعياتها.
قد تكون الإجراءات التي أعلنها البنك المركزي الإماراتي في ضوء حزمة التحفيز الاقتصادي لمواجهة كورونا عاملًا مساعدًا للبنوك الإماراتية من أزمتها مع شركة (إن إم سي هيلث)، حيث قدم البنك المركزي 10 مليارات دولار للبنوك لتوفير السيولة وإقراض الشركات، وسمح بتخفيض مخصصات الاحتياطي الإلزامي بنحو 60 مليار درهم ( حوالي 16.4 مليار دولار)، مما يعني أن ثمة سيولة جديدة تضخ في شرايين البنوك الإماراتية، تسمح لها بتخفيف حدة أزمتها مع شركة (إن إم سي هيلث).
وكانت وكالة التصنيف الائتماني “فيتش” قد أصدرت تقويمها لـ 14 بنكًا محليًا إماراتيًا في منتصف عام 2019، وكان تصنيفًا إيجابيًا قويًا، إذ حصل بنك واحد على ثاني أعلى تصنيف للوكالة، كما حصلت 7 بنوك على ثالث أعلى تصنيف للوكالة، بينما حصلت الـ 6 بنوك الأخرى على رابع أعلى تصنيف. وتعني تقديرات الوكالة للبنوك التي منحتها تصنيفها الائتماني، أن جدارتها الائتمانية ما بين مرتفعة جدًا وجيدة. وهو ما يجعل مثل هذه التصنيفات، محل شك، سواء فيما يتعلق بالبنوك، أو اقتصاديات الدول. ولا يعد هذا التجاوز في الجانب الرقابي بالشيء الجديد، ففي مطلع الألفية الثالثة، كانت شركة أنرون للطاقة صاحبة أكبر فضيحة مالية بسبب تضخم أعمالها المالية بدون وجه حق، في ظل إشراف واحدة من أكبر وأشهر شركات المحاسبة والمراجعة، وهي شركة “آرثر أندرسن”، وانتهت القضية بانهيار انرون، وتشريد نحو 400 ألف موظف.
وتعد أزمة شركة (إن إم سي هيلث) الأزمة المالية الثانية من حيث حجمها في دولة الإمارات، حيث شهد منتصف عام 2018، تفجير قضية شركة أبراج كبيتال القابضة واتهامها بالفساد من قبل شركاء من بريطانيا وأمريكا. وفي عام 2019 تم القبض على عارف نقفي في بريطانيا، ولاتزال الشركة تحت طائلة التصفية والتحقيقات القضائية في كل من الإمارات وبريطانيا وأمريكا، وكانت قضية أبراج كبيتال، قد شملت اتهامات بالفساد وتبديد أموال بمليارات الدولارات.
وكان خبراء صندوق النقد الدولي، قد أشاروا في تقريرهم عقب زيارتهم الدورية لدولة الإمارات في يناير 2019، إلى ارتفاع الديون المتعثرة، خلال فترة التباطؤ الاقتصادي (2014 – 2015) إلا أنهم ذكروا، أن البنوك لازالت تتمتع بمستوى جيد من السيولة ورأس المال.
ويستنتج من تقرير خبراء الصندوق، أن أزمة التعثر، على ما يبدو، أصبحت سمة في الاقتصاد الإماراتي، وأن عملاء البنوك يعتمدون سياسة تدوير القروض في ظل الأزمات الاقتصادية، وهو ما يمكن تمريره، ما لم تكن هناك أزمة كبيرة، تجعل إدارات الفحص والمراجعة، تدقق بشكل أكبر في حسابات العملاء.
بلا شك أن أي ديون مستحقة للبنوك يتم التفريط فيها عن طريق قرار ائتماني خاطئ، أو عن طريق افلاس الشركات والمشروعات المقترضة يكون خصمًا من كفاءتها الائتمانية. ولذلك، تعمل البنوك على تكوين مخصصات لمواجهة مثل هذه الحالات من خلال مخصصات الديون المشكوك فيها، ومخصصات أخرى للديون المعدومة.
وفي حالة وصول حالة المدين إلى مرحلة الإفلاس واعتبار الديون المستحقة عليه للبنوك، ديونًا معدومة، يؤثر ذلك مباشرة على نسبة الأرباح التي يحققها البنك، ما لم تكن من الحجم الذي يؤدي إلى تحويل البنك إلى خسارة في نهاية العام المالي.
لا تزال الإدارة الجديدة لشركة “إن.إم.سي هيلث” تطلب فرصة لإصلاح أوضاعها وتسديد الديون. لكن حال التعثر التي وصلت إليها الشركة وإظهار قيمة ديونها التي عجزت عن سدادها سوف تترك بصمتها على سمعة وجدارة موظفي البنوك الدائنة، بل قد يصل الأمر إلى اتهامهم بالفساد.
من المعايير المعمول بها في البنوك بشكل عام، بغض النظر عن الدولة التي تنتمي إليها، أنها تفضل التعامل مع كبار العملاء، نظرًا لما يتمتعون به من سمعة طيبة، وحجم نشاطهم الذي يسمح بضمان ما يحصلون عليه من قروض.
اليوم، وبالنظر إلى المردود الاستثنائي لشركات العلاقات العامة وما تنجزه من حملات إعلامية مؤثرة، صار من الممكن التلاعب في هذا المعيار عبر صناعة عملاء كبار على غير حقيقتهم، وهو ما يغرر بالعاملين في إدارات البنوك. في منطقة الخليج بشكل عام، يُلمس فيها الدور الذي يلعبه الإعلام في صناعة رموز مجتمع الأعمال. وقد يكون هذا أحد أهم الأسباب في تورط بنوك خليجية في تقديم قروض لشركة “إن.إم.سي هيلث” دون النظر إلى فحص موقفها المالي، سواء عبر دراسات الجدوي المقدمة، أو تقويم إدارات الإئتمان بشكل مباشر.
من أسباب تفاقم أزمة شركة “إن.إم.سي هيلث” هو أنها اقترضت من بنوك عدة وفي أكثر من دولة. وعليه، لم يتم النظر أو البحث عن إجمالي حجم قروضها. في بعض الدول، يقوم البنك المركزي، بعمل قوائم ومتابعات لكبار المقترضين من البنوك، ويرسل إشارات للبنوك، بوضع هؤلاء العملاء، وقيم مديونياتهم، حتى يتم النظر في منحهم المزيد من القروض.
من المهم ألا تمر أزمة شركة “إن.إم.سي هيلث” دون محاسبة شركات المراجعة الخارجية لكل من الشركة والبنوك المقرضة لها. فهؤلاء مسئولون عن تمرير ميزانيات للشركة قد تكون غير حقيقية، واستخدمت هذه الميزانيات في تمرير هذه القيمة الكبيرة من القروض. وهو ما دعا وسائل الإعلام في دول الخليج، وفي الإمارات بشكل خاص لمحاسبة المسئولين عن منح هذه القروض.
السؤال، لماذا الإمارات من بين دول الخليج هي الدولة التي تفاقمت فيها قضايا إساءة استخدام البنوك؟ الإجابة هي أن باقي دول الخليج قد تكون تعاني هي أيضاً من ظاهرة إساءة استخدام البنوك، لكنها ليست بالحجم الموجود في دولة الإمارات. كما أن كيانات المقترضين في باقي دول الخليج ليست بالحجم الموجود في الإمارات. أيضًا، قد يكون المقترضون في باقي دول الخليج لا يتوسعون في الاقتراض من بنوك خارج دولهم، وبخاصة من البنوك والمؤسسات المالية الأوروبية.