بعد سنوات من الظلم، الذي شمل العديد من الجوانب المختلفة في حياة الشعوب العربية تحت وطأة الحكم الديكتاتوري، أتت ثورات الربيع العربي لتزيح هذه النظم الظالمة، ولتنتظر عصرًا من العدالة الاجتماعية، يشمل حسن توزيع الثروة والسلطة، ويقيم قواعد جديدة من العدل.
فرجل الشارع ينتظر أن يعمل العاطلون، وأن يُتاح السكن الملائم لمن يسكنون القبور أو العشش أو المهمشين الذين يعيشون على أطراف المدن العربية، والذين اصطلح على تسمية مساكنهم بالعشوائيات. كما تأمل شعوب دول الربيع العربي في إتاحة خدمات عامة مُرضية في مجالات التعليم والصحة والصرف الصحي والمياه النقية الصالحة للشرب.
وتحت وطأة حالة عدم الاستقرار، لم يلمس المواطنون بدول الربيع العربي بعد، خطوات يمكن وصفها بأنها تضعهم على طريق تحقيق العدالة الاجتماعية. ومن الظلم أن نعتبر الفترة الزمنية التي مرت على نجاح ثورات الربيع العربي كافية لتحقيق العدالة الاجتماعية، بالشكل الذي يحقق آمال شعوب تلك الدول.
فهناك مجموعة من التحديات تواجه تحقيق الهدف الأبرز لثورات دول الربيع العربي، وهو العدالة الاجتماعية. ومن هذه التحديات ما يتعلق بالإرث الثقيل الذي ورثته هذه الدول عن النظم المستبدة البائدة، أو من الظروف التي صاحبت الحكومات الجديدة بعد الثورات بدول الربيع العربي. وفيما يلي نتناول هذه التحديات:
أولًا صعوبة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الموروثة
لاشك أن توفير متطلبات العدالة الاجتماعية، وبخاصة مواجهة مشكلتي الفقر والبطالة يتطلب مزيدا من الاستثمارات، إلا أن البيانات المتاحة عن الأوضاع الاقتصادية بدول الربيع العربي لازالت سلبية.
فعلى سبيل المثال تعاني جميع دول الربيع العربي من عجز بالموازنة العامة، ففي مصر بلغ هذا العجز في عام 2011 نحو 23 مليار دولار، وتونس نحو 2 مليار دولار، واليمن 2.6 مليار دولار، والاستثناء من هذه القاعدة ليبيا فلديها فائض قدره نحو 3.6 مليار دولار في نفس العام، ولكن لابد من الأخذ في الاعتبار من أن ليبيا من الدول النفطية.
فضلًا عن طلب هذا فإن هذه البلدان دخلت في مفاوضات للوصول إلى اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض من الصندوق أو من خارجه. وليس هذا فحسب ولكن البطالة تطل برأسها بمعدلات عالية تتراوح ما بين 15 % و18 % في دول الربيع العربي، ومن سمات سوق العمل بدول الربيع العربي الآن أن هناك اتساعا في فئة العاملين بالاقتصاد غير المنظم، وبخاصة في قطاع الخدمات.
ثانيًا :إطالة الفترات الانتقالية بدول الربيع العربي
لازالت دول الربيع العربي تعيش فترة انتقالية صعبة، لم تستقر فيها مؤسساتها البرلمانية والسياسية بشكل طبيعي، حتى تلك التي استطاعت أن تخوض غمار انتخابات لمؤسساتها البرلمانية والسياسية، فإن حالة عدم التوافق بين القوى السياسية، تكاد تعصف بهذه التجارب الانتخابية الوليدة.
ومن شأن هذه الحالة المضطربة أن تؤثر على أهم عناصر الحياة الاقتصادية وهو الاستثمار، سواء كان محليًا أو أجنبيًا، فبدون تزايد معدلات الاستثمار عما هي عليه الآن في دول الربيع العربي، فمن الصعوبة بمكان الحديث عن إتاحة فرص عمل جديدة للداخلين الجدد لسوق العمل، أو لتقليص معدلات البطالة التراكمية.
وتزداد الأهمية بدول الربيع العربي لتوفير حالة من الاستقرار والخروج من الفترة الانتقالية بسبب تعويل هذه الدول كثيرًا على استقدام استثمارات أجنبية مباشرة. وطول الفترة الانتقالية يثير مخاوف لدى المستثمرين الأجانب بسب غياب المؤسسية ودولة القانون.
وحسب الاحصاءات المنشورة فإن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر وتونس لازالت ضعيفة بنهاية عام 2012 والتي لا تتجاوز 1.8 مليار دولار في مصر، ونحو 2.2 مليار في تونس، بينما نجد أن صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في اليمن فلا يزال سالبًا بنحو 713 مليون دولار.
ثالثًا: اتباع الآلية القانونية للتعامل مع مفسدي الحكومات السابقة
ثروات الرؤساء السابقين لدول الربيع العربي، وكذلك أركان نظمهم، لازالت صندوقًا أسودًا للشعوب، وهي في لهفة للوقوف على الأرقام الحقيقية لهذه الثروات، سواء المتوفر منها بالداخل أو الخارج. وقد اتخذت معظم دول الربيع العربي المسلك القانوني لمحاسبة المسئولين الفاسدين بتلك الدول، حتى يمكنها الوقوف على أرضية قانونية صلبة لاسترجاع تلك الثروات، وبخاصة المتواجد منها بالخارج.
إذ يتطلب عودة الأموال المنهوبة بواسطة المسئولين السابقين بدول الربيع العربي صدور أحكام قضائية نهائية حتى يتسنى للدول الغربية ومؤسساتها التصرف في تلك الأموال واتخاذ قرارات بعودتها لدول الربيع العربي.
ويعد البطء الناتج عن اتباع المسلك القانوني لعودة الأموال المنهوبة أحد التحديات أمام تحقيق العدالة الاجتماعية في دول الربيع العربي، بسبب أن الإجراءات القانونية بطبيعتها تستغرق وقتًا طويلًا، في حين أن هذه الدول في أحوج ما تكون لسيولة تساعدها في الوفاء بالمتطلبات الأساسية للفقراء، وتلبية العديد من الخدمات العامة الخاصة بالطبقة الفقيرة.
لذلك لا يزال البعض يرى خطأ اتباع المسلك القانوني الطبيعي ويدعو لضرورة المحاكمات الثورية لكونها ناجزة في مثل هذه القضايا، ويدافع أصحاب هذا الرأي عما ذهبوا إليه بحجة أن فساد المسئولين السابقين مقنن، وبالتالي فان فرص الحصول على الأموال المنهوبة ضعيفة، وفي أحسن الأحوال ستكون الأموال المستردة لا تسمن ولا تغني من جوع.
وإن كان الكاتب يرى ضرورة اتباع المسلك القانوني الطبيعي وإن طال به الوقت ولكنه يؤدي إلى حالة من الاستقرار في أوضاع الدول مستقبلًا، فضلًا عما يوفره من احترام لدولة سيادة القانون.
رابعًا: ارتفاع سقف طموحات شعوب دول الربيع العربي
بعد نجاح ثورات الربيع العربي، ارتفع سقف تطلعات الأفراد، لينالوا حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وبخاصة أن أهم الأسباب التي كانت تحول بينهم وبين هذه الحقوق قد زالت، وهي النظم الديكتاتورية، فأطلق الأفراد لخيالهم العنان في شكل التعليم العام والمستشفيات العامة، والمرافق الخاصة بالنقل وغيره.
وقد ساعد على هذا الخيال الواسع الحديث عن الفساد والمبالغ المتعلقة به في عصر النظم الديكتاتورية، والإسهاب في عودة هذه الأموال وتوظيفها في تقديم خدمات للأفراد. كما سادت حالة من التفاؤل بمستقبل الاصلاح الاقتصادي والسياسي بدول الربيع العربي، دون الأخذ في الاعتبار المعوقات التي اعترت مسيرة هذا الاصلاح، سواء من قبل القوى السياسية المختلفة، أو مما وصف بالدولة العميقة.
كما عزز من هذا الشعور لدى المواطنين الوعود السخية من الدول الغربية والعربية بدعم اقتصاديات دول الربيع العربي بمبالغ بلغت في بعض التقديرات نحو 35 مليار دولار من الدول الغربية فقط.
خامسًا: التعهدات التي قطعتها الأحزاب الحاكمة على نفسها ببرامجها الانتخابية
قدمت الأحزاب الحاكمة برامجها الحزبية والانتخابية في ضوء تشريح كامل لكافة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مجتمعات دول الربيع العربي، ووضعت حلولًا عامة، خاطبت بها رجل الشارع، دون أن تأخذ في الاعتبار الواقع المالي المأزوم الذي تعاني منه تلك الاقتصاديات.
وقد ساعد على هذا الأداء تفاؤل هذه الأحزاب بقدرتها على مقاومة الفساد وتقليص دوره وحجمه، والاستفادة من وفورات مواجهة الفساد في مواجهة القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية.
وتناست هذه الأحزاب، أن الفساد الذي تواجهه لم يكن متعلقا بأشخاص ومؤسسات فقط، بقدر ما هو مرتبط بشبكات مصالح وتعميق الفساد كثقافة في أذهان قطاع كبير من الأفراد والمؤسسات.
سادسًا: بطء عمليات التغيير في الجهاز الإداري لحكومات دول الربيع العربي
غالبية دول الربيع العربي تعاني من ترهل في أجهزتها الإدارية الحكومية، حيث تنتشر البطالة المقنعة، واتسام النظام الإداري بالبيروقراطية، وانتشار الفساد. إلا أن هذا الجهاز الإداري في غالبية دول الربيع العربي كان ينتظر تدخلًا سريعًا وحاسمًا بشأن الإصلاح الإداري، والمصالحة بحقيقة الأوضاع المالية.
ولكن أجهزة الدولة المختلفة فوجئت بحالة من الارتخاء أثناء الفترات الانتقالية، مما ساعد على ذهاب حالة الترقب التي كانوا ينتظرونها، وبدأت دوامة جديدة لإبقاء كل شيء على ما هو عليه، إن لم تكن قد زادت معدلات الفساد داخل هذه الأجهزة الحكومية.
فضلًا عن موجات متتالية من المطالب الفئوية المتمثلة في زيادة الرواتب، والمطالبة بتعيين الأبناء في مؤسسات الدولة، وكأن التوريث كان محرمًا على أبناء الحكام المخلوعين وأعوانهم، في حين أصبح حلالاً لأبناء الموظفين داخل الجهاز الإداري بهذه الدول.
الحديث عن تقويم للعدالة الاجتماعية في دول الربيع العربي يأتي في إطار اعتبار العدالة الاجتماعية تمثل أحد أهم مطالب الثورات العربية من جانب، ومن جانب آخر أنها مطلب إنساني. وبالتالي فالحديث عنها يؤكد على أهميتها واستمرار المطالبة بتحقيقها، حتى تصبح واقعًا معيشًا في عقل ونفس صانع السياسة الاقتصادية والاجتماعية بدول الربيع العربي.
كما أن الأمر يتطلب أيضًا طمأنة مواطني تلك الدول بأن قضية العدالة الاجتماعية لا تقبل المساواة أو التأجيل، حتى لا يصاب هؤلاء بحالة من الاحباط الذي قد يقودهم إلى ثورات أخرى.