تعددت القراءات الخاصة بمستقبل أسعار النفط خلال الفترة القادمة، ما بين احتمالات هبوطها بسبب التحليلات التي تعتمد على توقعات تراجع معدل النمو الاقتصادي والركود التضخمي خلال عامي 2022 و2023، كما ذكر تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لصندوق النقد الدولي (يوليو/تموز 2022)، وما ينبني على ذلك من تراجع للطلب على النفط.
فتقرير صندوق النقد الدولي يتوقع أن تصل معدلات النمو الاقتصادي العالمي إلى 3.2% خلال عام 2022، وتشهد المزيد من التراجع في عام 2023 عند معدلات 2.7%، وهي بلا شك ينبني عليها تراجع الطلب على النفط إن صحت، خاصة أن معدلات النمو المتحققة في عام 2021 كانت عند معدلات 6%.
بينما ذهبت توقعات أخرى إلى عودة ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، في ظل تشدد روسيا في زيادة معاناة أوروبا بتخفيض صادرات الغاز والنفط لأوروبا، خاصة مع قدوم الشتاء، وفي نفس الوقت تبادل كل من روسيا من جهة وأميركا وأوروبا من جهة أخرى، بتصعيد الحرب الاقتصادية، والتي من بينها ورقة النفط والغاز التي تمسك بها روسيا، والعقوبات الاقتصادية التي تمارسها أميركا وأوروبا على روسيا.
وحسب البيانات المنشورة عن أسعار النفط في السوق الدولية يوم الخميس 8 ديسمبر/كانون الأول 2022، فإن سعر برميل النفط من خام برنت كان عند 77 دولارا، بينما الخام الأميركي كان عند 72.79 دولارا، وعلى مدار الأيام الماضية، يلاحظ أن ثمة اتجاها هبوطيا لأسعار النفط في السوق الدولية، إذ إن الأسعار تجاوزت 147 دولارا في مارس/آذار الماضي وعقب اشتعال حرب أوكرانيا وهو أعلى سعر على الإطلاق.
ولا شك في أن نتائج الصراع العسكري أخيرًا في أوكرانيا، والتي أظهرت تراجع روسيا في العديد من المناطق التي احتلتها في أوكرانيا، ساهمت في صناعة واقع أسعار النفط، بجوار ما اتخذته روسيا على الصعيد الداخلي في إطار التعبئة الجزئية، والتي أعطت دلالة سلبية حول إمكانية روسيا حسم الحرب في أوكرانيا، في إطار استخدام الأسلحة التقليدية، وبالتالي تكونت تصورات بضعف استخدام روسيا لورقة النفط، على المديين القصير والمتوسط في حربها ضد أوروبا وأميركا.
ويتوقع إذا ما استمر تراجع روسيا على الأرض عسكريًا، أن يؤثر ذلك على مقدرات وكفاءة عمل تكتل "أوبك+" حيث سيجد أعضاء هذا التكتل أنفسهم في جبهة خاسرة، وغير كفء، وهو ما ستكون نتيجته عودة الدول النفطية أعضاء "أوبك" إلى الحالة السابقة من تنسيق تام مع رغبات أميركا على وجه التحديد، في ما يتعلق بأسعار النفط في السوق الدولية.
منذ منتصف عام 2021، شهدت أسعار النفط صعودًا ملحوظًا بالسوق الدولية، وساعد على المزيد من ارتفاع الأسعار الحرب الروسية على أوكرانيا، التي وصلت بعدها أسعار النفط لقرابة 125 دولارا ثم إلى 147 دولارا، وهو ما أدى بالبعض إلى توقع أن يصل سعر برميل النفط لنحو 200 دولار ثم إلى 300 دولار، وفق توقعات صدرت في مارس/آذار الماضي.
وكان لارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية أثر مزدوج على اقتصاديات دول منطقة الشرق الأوسط، فالدول المنتجة تنفست الصعداء، لتتخطى مرحلة الأزمة التي ألمت بها إبان فترة ممتدة من تراجع أسعار النفط، حيث سعت الدول المنتجة لتغطية عجزها المالي، الذي أصبح علامة بارزة في موازناتها العامة.
انتعشت الأوضاع الاقتصادية للدول المنتجة للنفط في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة دول الخليج، إذ أدى ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولي لزيادة معدلات النمو بتلك الدول، وثمة توقعات بأن تحقق دول الخليج معدلًا للنمو في عام 2022 يصل إلى 6.1%.
حتى بالنسبة لإيران، فقد أدت أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط، إلى وجود فسحة لديها لتصدير النفط بشكل غير رسمي، إما بتغاضي أوروبا وأميركا عن مراقبة هذه التصرفات، أو أن الدول المستفيدة من هذا التصرف تشجع عليه لانخفاض أسعاره عن السوق الدولية، بعض التقديرات تذهب إلى أن عوائد النفط لإيران من ممارساتها لتصدير النفط اقتربت من 43 مليار دولار سنويًا.
وعلى الجانب الآخر، كانت الدول المستوردة للنفط تجني الثمار المرة لارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، حيث شهدت ارتفاعات ملحوظة لمعدلات التضخم، كما ارتفعت قيمة فاتورة النفط المستورد بها، فضلًا عن ارتفاع باقي مكونات استيرادها، التي تأثرت بشكل عام بارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية.
أما المشهد الثاني والذي بدأ مع بداية أغسطس/آب 2022، حيث بدأت حركة أسعار النفط أقل من 100 دولار للبرميل، ثم وصلت إلى 87 دولارا لخام برنت بنهايات نوفمبر 2022، فستكون له نتائج مختلفة عن المشهد الأول.
فإذا حافظ النفط على مستوياته الحالية بـ87 دولارا، مع استفادة الدول النفطية في الشرق الأوسط مما جنته من عوائد مرتفعة خلال فترة منتصف 2021 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 2022، فإنه بمقدورها أن تحافظ على أوضاع مالية مستقرة، لكنها لن تستمر في إحداث تراكمات مالية، في أرصدة احتياطياتها من النقد الأجنبي أو زيادة أرصدة صناديقها السيادية.
ولكن اذا استمرت أسعار النفط في التراجع لتعود إلى ما كانت عليه قبل فورة النصف الثاني من عام 2021، عند سعر يتراوح ما بين (60 - 65 دولارا) فإن ذلك يعني عودة مشكلات عجز الموازنة بالنسبة لبعض دول الشرق الأوسط المنتجة للنفط، والتي كان يستلزم سد فجوة عجز موازنتها أسعاراً للنفط لا تقل عن 100 دولار، والبعض الآخر عن 75 أو 65 دولارا للبرميل.
كما أنه سيؤثر على أوضاع مالية أخرى للدول النفطية في منطقة الشرق الأوسط، مثل تراكمات احتياطيات النقد الأجنبي، وتمويل الصناديق السيادية، التي انخفضت أرصدتها خلال الفترة من 2014 - منتصف عام 2021.
وفي ظل استمرار تراجع أسعار النفط في السوق الدولية إلى مستويات 60 أو 65 دولارا، فإننا سنشهد مرة أخرى تلك الأخبار التي تنقلها وسائل الإعلام عن طرح الدول النفطية بالشرق الأوسط لسندات في السوق الدولية لتمويل موازناتها أو تمويل مشروعاتها الاستثمارية.
وعلى الجانب الآخر، فإن دول الشرق الأوسط غير النفطية، من صالحها أن يشهد النفط مزيداً من التراجعات، مثل تركيا ومصر والأردن والمغرب وتونس والسودان وغيرها، فتراجع فاتورة استيراد النفط والغاز بالنسبة لهذه الدول يعد مخرجًا مهمًا في تهدئة موجة التضخم التي أربكت تلك الاقتصاديات، وأدت إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية سلبية.
وبالنسبة للدول غير النفطية في منطقة الشرق الأوسط، فإنها بحاجة ضرورية لانخفاض أسعار النفط، لتكتمل الصورة مع تراجع أسعار باقي السلع في السوق الدولية، وبخاصة سوق السلع الغذائية التي شهدت تراجعًا ملحوظًا على مدار الشهور الستة الماضية.
زادت أسعار النفط أو تراجعت، فالنتيجة الوحيدة المؤكدة هي أن اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط لا تزال غارقة في التبعية للخارج، فالنفط من الصناعات الاستخراجية الريعية، والتي فشلت دول منطقة الشرق الأوسط في أن تحوله لسلع ذات قيمة مضافة.
فثمة إصرار على تصدير الخام، وهو ما يفقد اقتصاديات المنطقة عوائد مالية كبيرة، فضلًا عن امتلاك التكنولوجيا، وممارسة المزيد من أوراق الضغط في إدارة الملفات السياسية المتعلقة بالمنطقة، والمرتبطة بتوجهات الدول الكبرى. يبقى التأكيد على أن ترديد مقولات تفعيل استراتيجيات تنوع الاقتصاديات النفطية بالمنطقة، يفتقد للمصداقية.