كانت الخطوات التي اتخذت بعد الإطاحة بنظام عمر البشير في السودان -11 أبريل/نيسان 2019- قاسية على الصعيد الاجتماعي، حيث اتخذت حكومة عبد الله حمدوك قرارات صعبة، مثل تحرير سعر الصرف، وتقليص الدعم أو إلغائه بنسب كبيرة، مما أدى إلى تجاوز معدل التضخم نسبة الـ400%، وعمل كذلك على زيادة معدلات الفقر.
والمتابع للشأن السوداني، كان يأمل أن تنجح اجتهادات السلطة المشتركة بين حمدوك والعسكر، لاستنقاذ السودان من الفقر والديون، والانطلاق إلى وضع اقتصادي أفضل، على الرغم من شروط المؤسسات المالية القاسية، والتي لم تراعِ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في السودان.
ولكن إجراءات الجيش في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، مثلت صفحة جديدة في أداء الاقتصاد السوداني، ووضعت العديد من الأسئلة حول الملفات المرتبطة بالمؤسسات الدولية، وكيف سيتم التعامل مع هذه الملفات؟ وعلى رأس هذه الملفات، ملف الدَّين الخارجي، الذي تم تخفيض قيمته بنحو 23.5 مليار دولار، مقابل أجندة يلتزم بها القائمون على أمر الحكم في السودان.
وعادة ما تتضمن مثل هذه الاتفاقيات شروطا سياسية واقتصادية، وإن كانت الشروط السياسية غير مكتوبة، وغير معلنة، ولكن عادة ما تكون لدى المنظمات الدولية أوراق ضغط، يمكنها أن تعرقل أي محاولات للإفلات منها. وفي هذه السطور نتناول وضع ومستقبل الدَّين الخارجي للسودان بعد الأحداث الأخيرة.
ثمة أمر يعلمه الجميع، من سطوة أميركا والغرب على صناعة القرار داخل المؤسسات المالية الدولية، ومؤخرا وجدنا تصعيدا على الجانب السياسي من قبل أميركا وآخرين، من أجل عودة المكون المدني للسلطة في السودان، والذي قوبل بالإفراج عن بعض الوزراء، ورئيس الحكومة المعزول عبد الله حمدوك، ولكنه لم يسفر عن تحقيق المأمول لأميركا وغيرها ممن طالبوا بتغيير الوضع السياسي بالبلاد.
وفي أول رد فعل يمكن أن يؤثر على الصعيد الاقتصادي ككل، وملف الديون بوجه خاص، تم تجميد معونات أميركية للسودان بنحو 700 مليون دولار، كما أعلن البنك الدولي عن تجميد مساعدته للسودان.
ومن هنا، من السهل، إذا ما تمسكت أميركا والمشاركون معها، بأن يلتزم العسكر بالسودان، بالعدول عن الإجراءات الأخيرة، أن يتم الضغط بقوة من خلال إلغاء الإعفاء الذي حصلت عليه السودان لديونها الخارجية، أما إذا كانت أميركا غير جادة، فإن الأمر بإمكانه أن يسير في نفس المسار مع المؤسسات الدولية وتنفيذ أجندتها، والاحتفاظ بالإعفاء الخاص بالديون الخارجية.
أدى عجز نظام البشير خلال فترة حكمه عن سداد أعباء الدَّين الخارجي، إلى تراكم هذه الديون مع الوقت، لتزيد الفوائد على أصل الدين، فحسب التقرير السنوي لبنك السودان المركزي لعام 2019، بلغ إجمالي الدين الخارجي 51.2 مليار دولار، منها 26.4 مليار دولار فوائد تأخيرية، أي أن فوائد الدين تزيد على إجمالي قيمة أصل الدَّين بقليل.
وتظهر قاعدة بيانات البنك الدولي، أن إجمالي قيمة الدين الخارجي للسودان بلغت 22.6 مليار دولار بنهاية 2020، إلا أن هذا الرقم لا يتضمن فوائد الدين المستحقة.
وأثناء مفاوضات حكومة السودان بعهد عبد الله حمدوك، أُعلن عن أن إجمالي ديون السودان الخارجية بلغت نحو 56 مليار دولار، وأن المفاوضات التي اختتمت في نهاية يونيو/حزيران 2021، لاستفادة السودان من اتفاقية إعفاء الدول الفقيرة من الديون، نجحت في الحصول على إعفاء لديونه الخارجية بنحو 23.5 مليار دولار، عبر اتفاقية إعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون، والتي يشرف عليها كل من البنك والصندوق الدوليين.
الوضع المالي في السودان، لا يؤهل لنوع من الاستغناء عن الديون، سواء المحلية أو الخارجية، بل إن مؤتمر باريس الذي مهد لإسقاط جزء من ديون السودان، كانت آليته تدبير قرض للسودان بنحو 1.6 مليار دولار، لدفعها للمؤسسات الدولية، حتى يمكنها عودة التعامل مع السودان.
وبالتالي فآلية المؤسسات الدولية، وكذلك الحكومة التي يتوقع أن ينصبها العسكر، ستكون الاعتماد على الاقتراض من الخارج، سواء عبر برامج صندوق النقد الدولي، أو المساعدات التنموية من البنك الدولي، أو الحصول على التمويل عبر الاقتراض من دول خليجية مثل الإمارات والسعودية، سواء كان ذلك في شكل ودائع بالبنك المركزي، أو مساعدات نفطية، أو قروض مباشرة.
ولكن كل هذه المسارات، مرهونة بمدى تجاوب العسكر مع الأطروحات للخروج من التداعيات التي خلفتها إجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول، وكذلك جدية أميركا والمؤسسات المالية الدولية، في التعامل مع العسكر في ظل رفضهم للمطالب الأميركية.
يرتبط مستقبل المفاوضات مع المانحين، بالعديد من الملفات السياسية، ومن بينها العلاقات السودانية مع إسرائيل، وهذا الملف قاد أمره عبد الفتاح البرهان القائد العام للجيش، بعد فترة قصيرة من الإطاحة بنظام البشير، وتمت لقاءات عدة بين المسؤولين من البلدين.
وكذلك مدى توطيد العلاقة بين السودان وكل من الإمارات والسعودية، باعتبارهما من الدول داعمة للوضع بالسودان، والحسابات في النهاية ستكون لمن يستطيع فرض الأمر الواقع في ضوء تحقيق المصالح السياسية لأميركا، وكذلك التعامل مع أجندة المؤسسات المالية الدولية.
ويتوقع أن يتماهى العسكر في السودان مع هذين الأمرين، وبالتالي تظل المفاوضات في ضوء الأجندة الاقتصادية، وتمرير خارطة طريق تعتمد الانتخابات البرلمانية، ووضع دستور، وانتخاب رئيس للجمهورية، بغض النظر عن مدى حرية ونزاهة هذه المراحل المختلفة، وسيسلم المجتمع الدولي، بشرعية ما ستنتجه خارطة طريق العسكر من مؤسسات، ولا أدل على ذلك أن العسكريين مستمرون، في تغيير عدد كبير من المسؤولين داخل كافة المؤسسات العامة، وما ينطبق على مستقبل المفاوضات ينطبق على تدفق الإعانات والمنح والمساعدات
بعد الإجراءات الأخيرة للجيش، شهد النشاط الاقتصادي شللا تاما، بسبب الفعاليات الشعبية، والتي انضم إليها العديد من مؤسسات الدولة، إلا أنه بعد عدة أيام، شهدت الأسواق تراجع أسعار بعض السلع القليلة مثل السكر، كما تم توفير البنزين بشكل جيد، ولم تعد هناك طوابير أمام محطات تموين البنزين.
ويتوقع الخبراء مع عودة تشغيل ميناء بورتسودان، أن تشهد السوق تدفق العديد من السلع، إلا أن أزمة توفير الخبز المدعوم، ما زالت قائمة، ولم تقم سلطة العسكر بحل الأزمة. ومن جانب آخر يرى خبراء أن استمرار العسكر في السلطة، سوف يمنع أو على الأقل يؤخر وصول المساعدات والمنح الدولية، وبرامج عديدة للحماية الاجتماعية كانت في طريقها للتنفيذ.
ولا يزال المشهد السياسي عالقا وحاكما لمصير الأوضاع الاقتصادية في البلاد، فحمدوك والقوى المدنية تتمسك بضرورة عودة السلطة المدنية، بشكل كامل، بينما العسكر ماضون على أرض الواقع بإحداث تغييرات في كل مراكز السلطة على الصعيد السياسي والاقتصادي، والوعد بوجود حكومة تكنوقراط.
وبالتالي ستكون هناك مجموعة من الملفات الضاغطة على العسكر، إذا استمروا على موقفهم، ومن هذه الملفات، توفير السلع والخدمات بكميات وأسعار مقبولة، وتدبير التمويل للموازنة العامة لتفادي المزيد من العجز، وإن كان بعض الخبراء أشاروا إلى أن الحكومة الشهر الماضي طبعت نقودا لدفع الرواتب، كما أن ملفات مزمنة مثل البطالة والفقر، وتحديث الصناعة، وتنمية الزراعة تنتظر العسكر كتحديات أمام الشارع السوداني.
بعد المفاوضات التي خاضتها حكومة حمدوك مع المؤسسات المالية الدولية، والتي توجت بتخفيض قيمة الديون الخارجية للسودان، وكذلك رفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، من قبل أميركا في ديسمبر/كانون الأول 2020، أصبح البنك المركزي السوداني وباقي المؤسسات المصرفية تتعامل مع النظام المالي العالمي، وتلقى البنك المركزي العديد من المساعدات من المؤسسات المالية، كما تلقت البنوك السودانية تحويلات العاملين بالخارج.
وإلى الآن، لم يتم أي حظر على المركزي السوداني وباقي البنوك السودانية، ولكن إذا صعدت أميركا، وأعادت الوضع إلى ما كان عليه قبل ديسمبر/كانون الأول 2020، فسوف يشهد النظام المصرفي في السودان حالة من الشلل مجددا