عقب صدور قرار الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، برفع العقوبات الاقتصادية بشكل جزئي عن السودان في يناير/كانون الثاني 2017، بدأت الحكومة السودانية في الترويج للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وبخاصة تلك الاستثمارات المنتظرة من دول الخليج، حيث القيادة السودانية المتمثلة في الرئيس السوداني، عمر البشير، ووزير الدولة للاستثمار أسامة فيصل، مجموعة من المستثمرين السعوديين والإماراتيين خلال الأيام القليلة الماضية.
ويعول السودان على الاستثمارات الخليجية من خلال موقفه السياسي المساند لدول الخليج في المنطقة، وبخاصة تجاه القضية اليمنية، حيث تشارك قوات سودانية ضمن تحالف دول الخليج في الحرب اليمنية.
وتقدر الاستثمارات المباشرة التراكمية للسعودية في السودان بنحو 26 مليار دولار، بينما تستحوذ الإمارات على استثمارات مباشرة تراكمية تقدر بنحو 10 مليارات دولار.
وحسب الأرقام التي تحتويها قاعدة بيانات البنك الدولي، فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في السودان بلغت 15.5 مليار دولار، خلال الفترة من عام (2007 – 2015)، بمتوسط سنوي 1.73 مليار دولار، وكانت أفضل سنوات الفترة من حيث استقبال الاستثمارات الأجنبية المباشرة هي سنة 2012 بحجم استثمارات 2.31 مليار دولار.
لكن بعد قرار الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية عن السودان، من المتوقع أن تشهد البلاد مزيداً من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال الفترة القادمة، حيث يلاحظ أن أفريقيا تحظى بشكل عام بزيادة معدلات الاستثمارات الأجنبية خلال الفترة الماضية، والسودان لديه مقومات إيجابية يمكن أن تساعد على جذب تلك الاستثمارات، شأنه شأن الدول الأفريقية الأخرى.
ولا يخفى على أي متابع للشأن الاقتصادي أن السودان من أفقر شعوب العالم، وفق تصنيفات التنمية المنشورة في تقارير البنك الدولي والأمم المتحدة، على الرغم من الموارد الاقتصادية التي يمكن توظيفها لتغيير هذا الوضع السلبي، وبلا شك فإنه يمكن للاستثمارات الأجنبية المباشرة في البلاد أن يكون لها دور في التنمية، لكن في ضوء مجموعة من الضوابط والمحددات، منها:
تتعدد صور الفساد داخل منظومة الاقتصاد السوداني، سواء داخل الدوائر الحكومية، كالجمارك ومؤسسة الجهاز الإداري المسؤول عن تسيير الإجراءات الاقتصادية المعني بها المستثمر، سواء كان محليًا أو أجنبيًا.
وحتى لا يكون الحديث عن الفساد في السودان على عواهنه، نستشهد هنا بتقرير مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2016 الذي يؤكد أن السودان من أفسد 10 دول على مستوى العالم، حيث احتل المرتبة 170 من بين 176 شملها تقرير منظمة الشفافية على مستوى العالم، وحصل على 14 من 100 درجة، مجموع درجات المؤشر.
وما لم يحسن السودان من وضعه في ما يتعلق بمكافحة الفساد، فلن تأتي إليه استثمارات أجنبية منتجة، أو تساعد على تحقيق تنمية، وإنما ستأتي الاستثمارات الطفيلية والريعية، التي تجد في مناخ الفساد مرتعاً، يجلب عليها أكبر قدر من الأموال. ولا بد أن تأخذ حكومة الخرطوم ما يأتي في تقرير منظمة الشفافية الدولية مأخذ الجد في مجال مكافحة الفساد.
وما لم تحسن السودان من وضعها فيما يتعلق بمكافحة الفساد، لن تأتي إليها استثمارات أجنبية منتجة، أو تساعد على تحقيق تنمية، وإنما ستأتي الاستثمارات الطفيلية والريعية، التي تجد في مناخ الفساد مرتع، يجلب عليها أكبر قدر من الأموال. ولابد أن تأخذ حكومة الخرطوم ما يأتي في تقرير منظمة الشفافية الدولية مأخذ الجد في مجال مكافحة الفساد.
القطاع الخاص أيًا كانت وجهته يبحث عن الربح السريع، ومن خلال المتابعة لبعض الأخبار المنشورة عن الشركات، التي حظيت بمقابلات مع الحكومة السودانية خلال الأيام القليلة الماضية، وبخاصة القادمة من دول الخليج، وجد أنها تركز على القطاع الخدمي والاستهلاكي، وكذلك قطاع العقارات.
وهذه القطاعات لا شك ضرورية ومطلوبة لأي اقتصاد، لكن يجب أن يتواكب ذلك مع نشاط إنتاجي، يمكنه أن يحقق حالة من التوازن بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد النقدي.
ويمكن للحكومة السودانية أن تحقق هذا التوازن من خلال المعاملة الضريبية وحوافز الاستثمار الأخرى، بحيث تعطي مزايا أفضل للأنشطة الإنتاجية، وتلك التي تعمل في الإحلال محل الواردات، أو التي تساعد على زيادة التصدير، أو تزيد من فرص العمل الحقيقية، أو تستجلب تكنولوجيا حديثة وتعمل على توطينها.
ومن متطلبات الاستفادة من الاستثمارات الأجنبية لخدمة أجندة التنمية بالسودان، أن يكون لدى الحكومة السودانية خريطة للاستثمار، تبين القطاعات التي تحتاج إلى هذه الاستثمارات، وأن يكون لها صفة التوزيع الجغرافي الذي يراعي عدالة توزيع الثروة، والاستفادة من الموارد الطبيعية والاقتصادية في السودان.
منذ بداية فترة التسعينيات وكذلك بعد عامي 2006 و2007، حيث عاش العالم ما يعرف بأزمة الغذاء، توجهت استثمارات أجنبية مباشرة إلى السودان بغرض التواجد في القطاع الزراعي، للاستفادة من توفر المياه والأراضي الصالحة للزراعة هناك، ولكن هذه الاستثمارات، وخاصة المرتبطة بالسعودية والإمارات ودول خليجية أخرى، وحتى اليمن، كانت تركز على توفير احتياجاتها الزراعية والغذائية.
وقد يكون من المناسب، وحتى يشعر المواطن السوداني بعائد من وجود هذه الاستثمارات في بلاده، أن يُشترط بيع نسبة من الإنتاج بالسوق المحلية، وعلى أن تكون أسعارها مناسبة لدخول الأفراد بالسودان، فمن غير المقبول أن تنتج البلاد السلع الزراعية والغذائية من خلال الاستثمارات الأجنبية للتصدير، ثم يقوم القطاع الخاص السوداني باستيراد احتياجاته من الخضروات والفواكة، والسلع الغذائية الأخرى.
وحسب بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي السوداني، بلغت واردات البلاد من السلع الغذائية في 2015 نحو 2.1 مليار دولار، وبما يعادل 22.4% من إجمالي الواردات السودانية البالغ قيمتها 9.1 مليارات دولار في نفس العام.
ليس هذا فحسب، فالسودان يستورد القمح، وهو الدولة التي توصف على أنها سلة غذاء العالم العربي منذ الستينيات، وبيانات نفس التقرير تبين أن واردات البلاد من القمح بلغت نحو 532 مليون دولار في العام 2015، بجانب 232 مليون دولار لواردات دقيق القمح.
وهذا الواقع يفرض على صانع سياسة التنمية في السودان، ألا ينساق لرغبات المستثمرين الأجانب بتوجيه الاستثمارات لاقتصاد الخدمات والعقارات على حساب الأنشطة الإنتاجية، وبما يؤدي إلى زيادة التبعية وعجز التنمية بالبلاد.
يعد فقر السودان في البنية الأساسية من معوقات التنمية، حتى داخل العاصمة، وإن كان هناك مخطط سوداني للاستفادة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مجال البنية الأساسية، فالأفضل أن توجه هذه الاستثمارات للطرق وباقي مرافق البنية الأساسية التي تخدم المشروعات الإنتاجية والخدمية، وقد يكون نظام حق الامتياز(BOT) هو المناسب للبلاد في ظل ظروفه المادية والمالية المعقدة، حيث تعاني من دين خارجي بلغ 45 مليار دولار بنهاية 2015.
ويعاني القطاع الزراعي من مشكلات كثيرة من بينها، عدم وجود نظام جيد لحفظ الحبوب وغيرها من باقي المنتجات التي يمكن الاحتفاظ بها لفترات طويلة، وهو ما يتوجب أن يدرج انشاء الصوامع وثلاجات الحفظ ضمن خريطة الاستثمارات الأجنبية بالسودان.
وهذا النوع الأخير من الاستثمارات، لا يتطلب قدرا كبيرا من المال، ولكن يمكن أن تساهم فيها أكثر من شركة أجنبية، ذات امكانيات تمويلية صغيرة أو متوسطة.