مثلت أزمة انهيار أسعار النفط بالسوق العالمي أحد الضغوط المهمة في إحداث تغير تاريخي في مسار الاقتصاد السعودي، فلم يعد الأمر يتعلق بتدبير بعض الديون أو تسييل بعض الاستثمارات الخارجية لتلبية احتياجات الموازنة العامة، ولكن الإجراءات التي أُعلنت مع موازنة عام 37/1438 الموافق 2016 ستؤدي إلى تغيرات اقتصادية واجتماعية سيعيشها المواطن السعودي لأول مرة، وفيما يلي نرصد تلك التغيرات.
وتظهر البيانات الواردة عن وزارة المالية السعودية أن موازنة 2016 تشهد تراجعاً في الإيرادات والنفقات العامة، فقد انخفضت الإيرادات من 608 مليار ريال في 2015 إلى 513.8 مليار في 2016، وبذلك تنخفض الإيرادات بقيمة 94.2 مليار ريال، وبنسبة 15.4%. وكذلك النفقات تم تخفيضها من 975 مليار ريال في 2015 إلى 840 مليار ريال، أي أن خفض النفقات بلغ 135 مليار ريال، وبنسبة 13.8%.
والقراءة التحليلية الأولية لهذه البيانات الخاصة بتراجع كل من الإيرادات والنفقات في عام واحد بنسبة 15.4% و13.8% على التوالي، يستنتج منها تراجع الناتج المحلي الإجمالي في هذا العام، وكذلك معدل النمو الاقتصادي، ليكون أقل من 3.3%، وليس بالضرورة أن يكون معدل النمو سالباً، ولكنه سيكون دون نسبة 3% على الأقل.
كما يستنتج من خطوة تخفيض الإيرادات والنفقات العامة لموازنة 2006 استهداف تخفيض عجز الموازنة، ليكون عند 326 مليار ريال في 2016، مقابل 367 مليار ريال في 2015، وبلا شك أن استهداف تخفيض عجز الموازنة عمل إيجابي، ولكن تبقى القضية في طريقة معالجة التخفيض، وأدواته ومدى تأثيرها على حياة المواطنين.
الخطوة الأولى التي دخلت حيز التنفيذ، وتضمنها بيان وزارة المالية، هي رفع أسعار الوقود والغاز والمياه، وفرض ضرائب على بعض السلع في مقدمتها المياه الغازية والتبغ، وإذا نظرنا إلى تأثير رفع أسعار الوقود والغاز والمياه، سواء بالنسبة للمنازل أو المنشآت التجارية والصناعية، فسنجد تأثيرها سلبياً على مستوى معيشة المواطن من حيث ارتفاع تكاليف المعيشة، وهو ما سيستلزم إجرءات تعويضية وبخاصة لطبقة الفقراء وذوي الحاجة، والذين تقدرهم بعض الكتابات بنحو 25% من الشعب السعودي.
الأمر الثاني أن التضخم في السعودية سوف يشهد ارتفاعاً ملحوظاً خلال الفترة القادمة مع رفع أسعار الوقود والغاز والمياه، بسبب مساهمة هذه الزيادة في تكلفة أسعار السلع والخدمات التي يقدمها قطاع الأعمال السعودي، وينتظر أن تكون التكلفة أكبر، إذا شرعت الحكومة السعودية في تطبيق ضريبة القيمة المضافة في وقت قريب.
وثمة عامل مهم لابد من أخذه في الاعتبار عند قراءة الآثار الاقتصادية والاجتماعية لتخفيض دعم الوقود وفرض ضرائب على بعض السلع، وهو العمالة الوافدة، والتي تشكل نحو 30% من السكان في السعودية.
فهؤلاء العاملون ستتأثر دخولهم بشكل كبير، وسوف يطلبون زيادة رواتبهم لمسايرة أجواء ارتفاع الأسعار، وزيادة معدلات التضخم، ليكون ذلك إضافة جديدة لتكلفة الإنتاج في السعودية، فيجتمع أمر زيادة الأجور وزيادة تكاليف الإنتاج في آن واحد.
الملاحظ من مجموعة الإجراءات التي صاحبت إصدار موازنة 2016 بالسعودية، أنها ترمي لتحقيق إصلاح مالي ونقدي، لتفادي العجز وتقليص الدين العام، ولكن الحديث عن اتباع برامج للخصخصة دون تسمية قطاعات أو مشروعات عامة بعينها، يفتح الباب لكثير من التساؤلات حول الدور الاقتصادي للدولة السعودية خلال المرحلة المقبلة.
فمن آفات برامج الخصخصة في العديد من الدول التي خاضت هذه التجربة، أنها لم تمهد الطريق للقطاع الخاص ليثبت أقدامه بشكل جيد لسيطرته على السوق وتقديم خدماته في إطار من تحقيق الربح المعقول.
الأمر لثاني وهو، هل سيتم بيع المنشآت العامة، أم سيتم التوقف عن إنشاء مؤسسات عامة جديدة، وتكون من نصيب القطاع الخاص، على أن تكون هناك عمليات إصلاح إداري واقتصادي حقيقي للمؤسسات العامة، حتى يمكنها العمل وفق معايير اقتصادية.
وثمة مجموعة من الأسئلة تخص التوجه السعودي نحو خصخصة المنشآت العامة، هل سيتم خصخصة المؤسسات عبر البورصة، أم ستكون من خلال البيع المباشر؟، وهل ستكون الخصخصة قاصرة عل المواطنين السعوديين، أم سيسمح للأجانب بالتواجد وشراء المؤسسات العامة، وبأي نسبة ستكون مشاركة الأجانب إذا سمح بها؟
ولم يلمس وجود إجراءات واضحة تخص أهم مراحل الإصلاح الاقتصادي وهي الإصلاح الإنتاجي، فكل ما ورد هو ما يمكن تسميته بتحول دور الدولة إلى الرقابة وتنقية مناخ الاستثمار، وتهيئة البنية التشريعية، وما لم يُستهدف القطاع الإنتاجي بشكل واضح ومحدد، وأن يؤدي الإصلاح المالي والنقدي وزيادة مساحة مشاركة القطاع الخاص إلى بناء قاعدة إنتاجية بالسعودية، فسينهار كل ذلك، بعد فترة ولعل تجربة مصر في التسعينيات وفي بداية الألفية الثالثة خير شاهد، حيث تحقق الإصلاح المالي والنقدي، وأُهمل القطاع الإنتاجي، فعادة مصر أسوأ مما كانت.
على الرغم من خفض موازنة 2016 للإيرادات والنفقات، كما ذكرنا من قبل، وكذلك اتخاذ مجموعة من الإجراءات المتعلقة بتخفيض الدعم، وفرض رسوم وضرائب جديدة، فإن الدين العام سيرتفع بقيمة العجز المدرج في الموازنة، أي بنحو 326 مليار ريال، وحسب بيانات وزارة المالية السعودية فإن الدين العام بلغ 142 مليار ريال في 2015، أي أن الدين العام السعودي يتوقع له أن يصل بنهاية عام 2016 إلى 468 مليار ريال.
وبلا شك أن زيادة الدين العام، هي خصم من الملاءة المالية للدولة السعودية، وحرمان من توظيف أفضل للمخصصات العامة، تؤثر بشكل سلبي على ما تقدمه الدولة من خدمات في قطاعات التعليم والصحة والبنية الأساسية.
القطاعات السبعة التي تضمنت تفاصيل بنود الإنفاق العامة بالموازنة السعودية لم تبين حجم المساعدات التي تبنتها السعودية لمجموعة من الدول مثل مصر والأردن والبحرين، ولا حتى ما يخص الاستثمارات السعودية، سواء في داخل البلاد أو خارجها، وهو ما يفتح الباب لتساؤلات حول وجود موازنات موازنة، أو صناديق خاصة خارج الموازنة، يتم التصرف من خلالها في البنود الخاصة بتقديم المنح والمساعدات، أو إدارة الاستثمارات الخارجية للسعودية.
بمراجعة البنود السبعة لمخصصات الإنفاق بالموازنة السعودية، نجد أن بند الإنفاق الخاص بالقطاع الأمني والعسكري هو الأكبر من بين القطاعات، إذ يبلغ 213.3 مليار ريال، وبنسبة تصل إلى 25.3% من إجمالي الإنفاق العام، كما يلاحظ أن مخصصات القطاع الأمني والعسكري، تفوق مخصصات قطاعات (الخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية + الخدمات البلدية + التجهيزات الأساسية والنقل + الإدارة العامة) إذ يبلغ إجمالي مخصصات هذه القطاعات الأربعة 171 مليار ريال.
ويفسر ارتفاع مخصصات القطاع الأمني والعسكري، الواقع المعيش للتواجد السعودي في الحرب ضمن تحالف الخليج ضد الحوثيين باليمن، وحالة الـتأهب ضد توسعات تنظيم “داعش”، فالسعودية تعد رابع أكبر دولة في العالم من حيث الإنفاق على التسليح.
وستبقى موازنة 2016 رهن تحديات التطبيق خلال المرحلة المقبلة، والنجاح في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتجنب المردود السياسي لهذه الإجراءات، وبخاصة لدى طبقة الفقراء، الذين ينتظر أن يكون لهم رد فعل مع تطبيق المزيد من برامج تخفيض الدعم، وكذلك خصخصة المؤسسات العامة.